المشاهير

محمد حسن فقي

الشاعر الذي اختزل الأدب والصحافة وعبر بها أبواب السفارات

بقلم- آمال رتيب
عادة يسهل التصنيف لشخصية أو قامة من القامات فهم مداخل تلك الشخصية٬ أما شاعرنا محمد حسن فقي٬ فكان من الصعب في حياته وحتى بعد مماته أن تجد له وسمًا محددًا٬ أو تضع اسمه تحت تصنيف ما٬ فهو أبو العلاء المعري٬ الذي طوع اللغة العربية وسبر أغوار مفرداتها فأتته طائعة لينة تنساب شعرًا أحيانًا٬ ونثرًا أحيانًا أخرى٬ تتصيد ملامح التصوف في أشعاره وما هو بصوفي٬ تتقاطر الفلسفة في محكم أبياته ولكنه لم يضع نفسه ولم يضعه غيره موضع الفلاسفة٬ مرهف الإحساس٬ ذكي الكلمة٬ قل ما شئت عن “الشاعر المكي” ولكن في نهاية الأمر لن تجد له وصفًا محددًا أو إطارًا واحدًا٬ ولكن يظل أبلغ وصف له أنَّه «شاعر مقتدر»٬ تارةً يوغل في مُشابهة الشِّعْر القديم حتَّى يصحّ أنْ نرفع قصيدته إلى شاعر مِنَ العصر العبَّاسيّ٬ وتارةً يُسْمح في مفرداته ولغته٬ ويكون أدنى إلى ما يعالجه الشُّعراء الرُّومنطيقيُّون في ألفاظهم ومعانيهم٬ لكنَّ لغته٬ في كلتا حالتيه رفيعة راقية.
الشاعر المكي
ولد الشاعر محمد حسن بن محمد حسين الفقي بمدينة مكة المكرمة في (27) ذي القعدة عام 1331 هـ٬ الموافق 1914م. تلقى علومه بمدرستي الفلاح بمكة المكرمة وجدة٬ وتخرج من مدرسة الفلاح بمكة المكرمة. وثقف نفسه بنفسه ووسع معارفه بالاطلاع على شتى كتب الأدب القديمة والحديثة٬ وكتب التاريخ والفلسفة٬ وغيرها. ودخل عالم الأدب من باب الهواية٬ وبدأ نظم الشعر وكتابة المقال الأدبي وهو في سن الـ 12، وكانت أول قصيدة نشرت له بعنوان (فلسفة الطيور) في مجلة (الحرمين) القاهرية.
لُقب بشاعر مكة٬ وفيلسوف الحجاز وشاعر القافية٬ ويعد امتدادًا للشاعر حمزة شحاتة٬ كما يشبّه بالشاعر العربي أبو العلاء المعرّي.
كرمته المملكة في مهرجان الجنادرية ومنحته جائزة الدولة التقديرية. كما أن هناك جائزة أدبية عربية منذ عام 1994م باسم جائزة محمد حسن فقي للشعر والنقد الأدبي مقرها مصر٬ أسستها مؤسسة أحمد زكي يماني الثقافية الخيرية٬ وحملت اسم «الشَّاعر المكِّيّ»٬ لتُلْبِسَ الشَّاعر الحكيم أنواط المجد٬ وتُذْكِر القرَّاء والنُّقَّاد العرب بشاعر راض مِنَ الشِّعر أصعبه. اخْتُصَّ شعره وحياته بـ 4 رسائل جامعيَّة لنيل درجة الدكتوراة٬ وربما كان ذلك تعويضًا عنْ سكوت النَّقد الأدبيّ عنْ شِعره٬ ومجافاته له.
مصادر المعرفة
وكانت مصادر المعرفة لديه متنوعة بتنوع وتعدد من يقرأ لهم مثل طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين والرافعي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة والزهاوي والرصافي والجواهري والأخطل الصغير وبدوي الجبل، كما قرأ أمهات الكتب في التاريخ والفلسفة وما إليها من شتى المعارف والعلوم والفنون عربية ومترجمة.
كابد “فقي” العديد من الصعاب والعقبات٬ ولعل أول ما كابده شاعرنا هو وفاة والدته رحمها الله وهو في سن 7 أشهر فقط، حيث تولت المرضعات والمربيات تربيته٬ وفي الوقت الذي فرح فيه بتخرجه في مدرسة الفلاح انتقل والده رحمه الله الى الدار الآخرة.. ويقول شاعرنا الكبير وأديبنا المرموق إن الهواية وحدها هي التي قادته في عالم الأدب والفكر.
وكان السبب في ذلك يعود الى والده رحمه الله كما يقول شاعرنا حيث كان يشجعه على القراءة والاطلاع وتثقيف نفسه، وكان يبذل له المال اللازم لشراء الكتب الأدبية والدواوين الشعرية ومختلف مصادر الثقافة.
أدباء وغيرهم

يقول شاعرنا وأديبنا محمد حسن فقي إنه قرأ في كل الجوانب الأدبية وآخذ من كل جزء من الثقافة بنصيب٬ من القديم والحديث٬ ويقول إنه أعجب بالكثيرين من القدامى والمحدثين ولكنهم لم يستطيعوا أن يطمسوا شخصيته ومن الذين تأثر بهم كما يقول: الجاحظ وابن زيدون والغزالي وابن خلدون والمتنبي والمعري وابن الرومي والبحتري وابو تمام وجماعة المهجر وكبار الشعراء في مصر وسوريا ولبنان. وتولى رئاسة التحرير في جريدة صوت الحجاز وهو في سن مبكرة وعن طريقها تعرف على الأدباء والمفكرين ونشر لهم واطلعوا على شعره وأدبه ومنهم محمد حسين هيكل والعقاد الذي أعجب بشعره.
ومن الشخصيات غير الأدبية التي كان لها دور بارز في حياته من غير الأدباء وأصحاب الحرف كما يقول: والده ثم الملك فيصل والشيخ عبدالله السليمان والحمدان وآخرون يأتون بعد هؤلاء في التأثير والاعجاب.
أنسنة الشعر

نَظَمَ محمَّد حسن فقي القصائد الطِّوال٬ وبثَّ في أوصالها فلسفته وحكمته وألمه وتشاؤمه وإحباطه٬ كما نَظَمَ «الرُّباعيَّات»٬ وسواء قرأتَ له مطوَّلة أوْ قرأتَ له رباعيَّة٬ فلا بُدَّ أنَّك ستقف في هذه وتلك على شاعر جرَّب الحياة وخَبَرَها٬ ولمّا كان له ذلك٬ صاغ تلك التَّجربة شِعْرًا٬ إنْ تأمَّلتَ ظاهره٬ هادئا رزينًا٬ لكنَّك لا تكاد تخرج منه حتَّى تلوح لك في ثناياه معالم «تمرد» على ما استتبَّ للنَّاس مِنْ ألوان الحياة وما نشّأوا عليه٬ فهو شاعر قاده الشِّعْر والفلسفة معًا إلى معنى «التَّسامح»٬ فكان٬ بذلك٬ شاعرًا «إنسانيًّا»٬ سخَّر «موهبته» للكتابة عن الإنسان٬ مهما كان دينه أوْ عِرْقه أوْ لونه أوْ ثقافته٬ فكان شِعْره مُشْابِهًا كبار الشُّعراء الإنسانيِّين في الأدب العربيّ٬ كأبي العلاء المعرِّيّ٬ وابن عربيّ المتصوِّف٬ فاتَّسع قلبه لكلّ النَّاس٬ وما ضاق بأحد٬ وكان صوته الشِّعريّ مختلفًا عنْ سواه مِنَ الشُّعراء السُّعُوديِّين.
قدر ورجل

وكما كان شعر يشع فلسفة وتنطق كلماته حكمة٬ كانت لا تخلو أشعاره من رومانسية طاغية٬ ذكرها عبدالعزيز الربيع في تقديمه لديوان الشاعر: “قدر ورجل:” تألق الفقي الرومانتيكي كمذهب أدبي شعري في الديوان٬ وهو مذهب يمثل تيارًا شعريًا عالميًا في أدب الحياة الحديثة في الفكر والأدب والثقافة الشعرية – إن صح التعبير – التزم به شاعرنا في نظم الشعر وقوله. ولا يستغرب فهو من المتمسكين جيدًا في هذا الأدب والشعر منه بالذات٬ إذ أنه الذي يربط المتلقي بالشاعر لا لشعره فحسب وإنما للروح التي فيه”.
وأود أن أنبه هنا للتوضيح أكثر وأكثر أن التيار هذا الذي يتجلى في التأمل والشغف بالتساؤل٬ والانعطاف نحو الطبيعة٬ والأمل بحب كبير يشمل كل شيء في الوجود يمثله محمد حسن فقي خير مثال ونموذج له٬ كما يقول ذلك الدكتور بكري شيخ أمين في كتاب: الحركة الأدبية في المملكة العربية ص 413 ط الرابعة 1985م دار العلم للملايين بيروت – لبنان. ويضيف قائلًا:”وربما كانت عناوين قصائده في ديوانه (قدر ورجل) تومئ إلى اتجاهه ونزعته في التأمل والتفكير٬ فمن تلك العناوين: “من أنا”٬ “إزميل وتماثيل”٬ “غربة الروح”٬ “وساوس الإيمان”٬ “نفس تبحث عن نورها”٬ “جحيم النفس”٬ “عذاب الحيرة”٬ “جدار الظلام”٬ “ازدواجية الشخصية”. إلى أن يقول: “ولو ذهبنا إلى تلمس بصمات هذا الأثر لرأيناها فياضة في الديوان بل في كل قصيدة من قصائده٬ ونكاد نقول: إن التساؤل يملأ قصائده٬ ويلح عليه٬ ويدفعه دائماً إلى هدف واحد يتلخص في ” من أنا”؟
“ولعل قصائد القسم الأول من ديوانه ” قدر ورجل ” الذي عنونه “من أغوار النفس “وضم فيه تسع قصائد خير شاهد.
المناصب

عمل أستاذًا للأدب العربي والخط بضعة أشهر بمدرسة الفلاح. وساهم في تحرير جريدة صوت الحجاز٬ ثم جريدة البلاد٬ وكان أول مدير عام لمؤسسة البلاد الصحفية. ثم عين رئيسًا لتحرير جريدة (صوت الحجاز) ثم صدر أمر معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير التعليم العالي رحمه الله بتعيين الأستاذ الفقي مستشارًا للمجلة العربية٬ ثم انتقل للعمل بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم عين مديرًا عامًا بها٬ وبناء على رغبة سامية من الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله تم تعيينه سفيرًا للمملكة في إندونيسيا وحضر مع الملك فيصل بن عبدالعزيز المؤتمر الإسلامي في «باندونج». ثم عاد الى المملكة وأمره الملك فيصل بن عبدالعزيز بتأسيس ديوان المراقبة العامة، ثم استقال من هذا المنصب لأسباب صحية. وعين بعد هذا المشوار الحافل بالعمل رئيساً لمجلس إدارة البنك الزراعي.
مؤلفاته
له مؤلفات منها:
نظرات وأفكار في المجتمع والحياة “في جزئين”. وهذه هي مصر. فيلسوف. مذكرات وأفكار حول الحياة. الأجيال.
مجموعة قصصية. بحوث إسلامية. ملحمة شعرية في رحاب الأولمب .ترجمة حياة. مذكرات رمضانية
دواوينه الشعرية
قدر ورجل. رباعيات.
صدرت أعماله الكاملة في 8 مجلدات عام 1985 .
حياته العائلية
تزوج محمد حسن فقي 3 نساء ورزقه الله منهن: محمد حسن محمد حسن عمل سفيرًا في الجزائر وتوفي مؤخرًا. وفؤاد محمد حسن فقي كان يعمل نائبًا للقنصل العام في مدينة نيويورك وتوفي إثر حادث في مدينة نيويورك. وفوزية محمد حسن فقي توفيت وكانت مشرفة اجتماعية حيث تحمل درجة البكالوريوس في علم الاجتماع. ورشاد درس في مصر وبريطانيا وهو أخصائي في الأذن والأنف والحنجرة. وعدنان محمد حسن فقي مستشار قانوني. ومها.. التي تعمل طبيبة عيون.
الأب في عيون ابنه

بنبرة واضحة تحدث المستشار عدنان محمد حسن فقي عن والده٬ فالذكريات قائمة جلية في حياته٬ لا تستدعيها الذاكرة من ماضٍ بعيد٬ فيقول عن تأثير والده المباشر عليه: «تعلمنا منه الكثير٬ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر٬ ولست وحدي الذي ترك الوالد بصمته عليه٬ ولكن معي كل إخواني٬ وعني شخصيًا كنت أرى فيه الرجل العصامي٬ الذي بنى نفسه بنفسه٬ فكان هذا النموذج وما زال ماثلًا أمام عيني في كل لحظة٬ استحضر مواقفه التي تنم عن أنفة وإباء٬ فبالرغم مما ناله من مكانة مقربة من أولي الأمر تقديرًا له ولمكانته الأدبية التي لم يحظى بمثلها شاعر أو مثقف سعودي٬ ظل ينأى بنفسه عن طلب مساعدة أو استجداء منصب لنفسه أو لأحد من أبنائه».
تأثير اليتم

ويتذكر ذلك البيت الذي تربى فيه في الكيلو 5 بطريق مكة٬ وما له من ذكريات ومعانٍ٬ يذكر كيف نشأ والده يتيم الأم٬ فترك ذلك في نفسه أكبر الأثر وكان أول الملامح التي رسمت رهافة احساسه٬ ثم وفاة والده يوم تخرجه من الثانوية بمدرسة الفلاح٬ ذلك اليوم الذي كان يطير فيه فرحًا إلى والده ليبشره٬ فوجده في النزع الأخير من حياته٬ ولكن تولته شقيقتاه فاطمة أو “بيبي” كما كان يحلو له أن يناديها٬ والعمة خديجة٬ اللتان سهرتا على رعايته واستكمال طريقه.
يوم العائلة المقدس
ويضيف عدنان: أما يوم الخميس من كل أسبوع فكان يوم العائلة المقدس الذي لا يسمح لأحد بتفويته٬ وكنا حريصين كإخوة أن نجتمع مع الوالد في هذا اليوم ومن حوله أحفاده بعد ذلك٬ نتناول الغذاء معا٬ ونلعب كلنا كأصدقاء وهو معنا «الورق»٬ في صفو ومرح٬ ونسهر حتى الساعات الأولى من الصباح منا من يخلو به ليناقشه في أمر شخصي٬ وأحيانًا يأخذنا الحوار إلى الأدب والشعر والحياة العامة٬ فكانت الحياة وبهجتها في هذا اليوم٬ وما زلت شخصيًا حريص على هذا التقليد الذي أورثني أبي إياه مع أبنائي.
مدرسة الملوك

ويعود المستشار عدنان فقي إلى أيام الدراسة٬ وكيف كان الشاعر الكبير يقدر العلم كقيمة في حياة الإنسان٬ فدفع بأبنائه إلى مدرسة فيكتوريا أو «مدرسة الملوك» كما يطلق عليها٬ ليتلقوا تعليمهم هناك٬ وكان فخورا بكل ابن من أبنائه ويرى فيه ثمرة جهده٬ كما أننا فخورين بمثل هذا الأب الذي يكفينا اسمه فخرًا واعتزازًا٬ اسم محمد حسن فقي المحبب إلى كل ملوك المملكة وشعبها.
قلما جاد الزمان بمثله
وعندما أتى الحديث على الشعر٬ قال: «كنت وما زلت من أشد المعجبين به كشاعر ذكي٬ مرهف الإحساس٬ يمتلك ناصية اللغة والحروف٬ وقادر على تطويعها في صور شعرية موزونة٬ قلما جاد الزمان بموهبة مثله» ٬ واعتز جدًا بالرباعية التي كتبها بمناسبة مولد ابني مازن يقول له فيها: “هللت الدنيا بمولد طفل٬ أندى من الزهور وأحلى٬ أنت يا مازن فريد٬ لم أبصر في بهائك طفلا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *