المشاهير

أحمد السباعي صانع الحرف وغريق بحر الأبجدية

بقلم- أميمة الفردان
بين “أيامي” و”تاريخ مكة” تبدو مهارة أحمد السباعي الأديب وشيخ المؤرخين؛ كما وصفه كثيرون ممن عاصروه وقرأوه، أشبه ما تكون بقمم اعتلاها السباعي وتربع عليها؛ متنقلًا بين قمة وضع المناهج الدراسية ليظهر التربوي الذي يسكن داخله، فيما حملته نسمات هواء الوادي المكي ليعتلي قمة كتابة المقال، التي ادخلته بلاط صاحبة الجلالة من بوابتها الواسعة في جريدة صوت الحجاز، لينتقل بعدها إلى إدارة الجريدة؛ التي اهلته ليصبح فيما بعد مديرًا لشركة الطبع والنشر ومديرًا للجريدة ورئيسًا لتحريرها.
خطوات السباعي في البلاط الصحافي لم تقف عند صوت حجازها، بل كانت له بصمات ريادية؛ منها إصداره لجريدة الندوة، إلا أن عملية الدمج التي طالتها مع شقيقتها جريدة حراء جعلته يتخلى عنها، ليصدر مجلة قريش سنة 1380 هـ. التي استمر صدورها حتى اعلان ولادة عهد المؤسسات، ليستحق عن جدارة لقب شيخ الصحافة السعودية؛ ويجمع بين مشيخة التأريخ والصحافة.
علامة أدبية
مشوار القلم الذي بدأه السباعي لم يتوقف عند حدود صاحبة الجلالة؛ بل جعله حبه للقراءة وشغفه للاطلاع ليصبح علامة من علامات الأدب السعودي؛ بإعتباره قاص ومؤرخ يعتد به، خصوصًا إذا ما تعلق الأمر بالحجاز؛ ليترك لنا إرثًا معرفيًا وأدبيًا لازال جريانه يسري حتى يومنا هذا، رغم قسرية الغياب المادي، إلا أن الحضور المعنوي والمعرفي للسباعي مازال متجليًا بقوة الحبر والطباعة التي دخل بحرها السباعي وأجاد السباحة في أعماقها.
كتب ومسرح

تجاربه الصحافية أهلته ليستحق عن جدارة لقب شيخ الصحافة السعودية

أنتج السباعي مجموعة من الكتب القيمة، لعل أبرزها رواية فكرة، يوميات مجنون، أبو زامل، دعونا نمشي، أيامى وهي سيرته الذاتية، والمجموعة القصصية “خالتي كدرجان” 1387هـ. فيما كانت منحته لمكة الي أحبها تأسيسه لمطبعة الحرم التي أطلق عليها في بادئ الأمر اسم مطبعة “قريش” فيما بنى بجوارها أول مسرح في مكة وعلى مستوى السعودية، وكان يهدف من خلاله؛ لإثارة الوعي المعرفي والثقافي وتعليم المجتمع فن إدارة الحوار، إلا أن التجربة لم تستمر طويلًا بسبب إغلاق المسرح.
جائزة الدولة التقديرية
جهود السباعي أهلته عن جدارة واستحقاق للحصول على جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1404هـ. مستلمًا إياها من يد المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ابن مكة التي تفتحت فيها عيناه ليرى جلالها وجمالها في عام 1323هـ. وتلقى أولى أبجدياته في كتاتيبها، وتلى فيها آيات فاتحتها وختم قرآنها، قبل أن ينتقل ليدرس علوم الحياة في أول مدرسة نظامية “المدرسة الراقية”، ومنها ينتقل عبر القارات إلى شاطئ الإسكندرية في مصر، ليبدأ منها منعطفًا آخر في العلم والمعرفة.
أسلوب مميز
اعتمد السباعي في كثير من كتبه لغة تجمع بين البساطة وفن التصوير، الذي يكاد يشعل مخيلة قارئه، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأجيال اللاحقة، ربما من أهم الكتب التي جمعت بين بلاغة الحرف وبراعة التصوير، كان كتاب “خالتي كدرجان” و”أيامي”؛ حيث روى فيهما علاّمة الحجاز مشاهد من الحياة الاجتماعية التي عاشها طفلًا وترسخت في ذاكرته؛ ليضعها بين أيدينا مرجعًا لأيام مضت،
تلك المشاهد تأرجحت بين نظام التعليم في تلك الفترة، واسماء كان متعارف عليها مثل “العريف والفيه”، ناهيك عن الألعاب التي شكل حضورها لأطفال ذلك الزمن، متنفسًا جمع بين البراءة في أبهى صورها والممارسة الفعلية لمعنى المشاركة، ولم يكتف السباعي بذلك بل أن الكتابين زاخرين بمشاهد غابت عن المشهد الاجتماعي اليوم، وصارت تبدو غريبة بالنسبة للأجيال الجديدة.
قالوا عنه
في محاولتنا لإستعادة شيء من بريق أيام أحمد السباعي “التاريخ الذي غاب”، عرّجنا على بعض ما قاله عنه من عاصروه، أو عٌرف عنه من خلال ما كُتب في صاحبة الجلالة، لنجد مطولات ثمينها السباعي نفسه، وغثها قليل من الغيرة، لم يشبع نهم الجائعين في محراب علم شيخ الصحافيين.
ابن البلد

حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1404هـ.

“يروي محمد مغربي أنه تعرف على السباعي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حينما انتقل للعمل بمكة المكرمة، وأنه كان رجلًا كثير الحيوية، يتحدث الفصحى في غالب كلامه، بينما تدل حركاته عن طبع مكي معروف يجعله ضمن أبناء البلد الذين طبعتهم مهنة التدريس بطابعها المميز، فكان نوعًا خاصًا من الناس يجمع بين خصائص طبع ابن البلد،
وعقلية المدرس المواكب للجديد في هذه الحياة، وذكر مغربي أنه كان ذات يوم في مجلس الأمير عبد الله بن عبد الرحمن بالرياض، وجاء ذكر كتاب السباعي “تاريخ مكة”، وأن الأمير سأله عن الكتاب، فقال إنه كتاب عظيم لولا أنه مختصر، وإن السباعي من كُتّاب التاريخ الذين يروون ثم يعلقون على ما رووا، حيث كان يعلق على الأحداث والرجال الذين ورد ذكرهم في الكتاب، كما أن مغربي التقى السباعي في اليوم نفسه، وأخبره مغربي عما دار بينه وبين الأمير، فسر السباعي بذلك كثيرًا.
صاحب الندوة
فيما ذكر المؤرخ محمد بن عبد الرزاق القشعمي سبب اختيار السباعي لاسم (الندوة) للصحيفة القديمة، نجده في افتتاحية العدد الأول والذي أشار إليه عثمان حافظ ونقل عنه محمد فريد محمود عزت يقول: (ولأمر ما أبينا إلا أن نختار لصحيفتنا اسم الندوة فقد كانت الندوة شعارًا لأول نهضة عرفتها بلاد العرب، وكانت دارها في حاشية هذا الوادي وعلى خطوات من زمزم أول دار تألقت فيها اليقظة، ولمع فيها مجد بني يعرب).
عمق وخفة ظل
ووصف الناقد فاروق با سلامة الفكرة الأدبية لدى أحمد السباعي بالعمق وفي الوقت نفسه بخفة الظل وسرعة الفهم، كما ظهر واضحًا لمن يقرأ المجموعة القصصية “خالتي كدرجان” أو روايته “فكرة”، ويرى أن براعة السباعي تمثلت في الاختيار من ألوان الحياة الاجتماعية، لتصنع من قصصه وحكاياته ما يمثل المجتمع الذي يتمنى له السباعي حياة متطورة،
وبرزت في كتابه “دعونا نمشي” أفكار لخدمة المجتمع لكي ينهض بعد سبات طويل، ذلك لأنه كان أديبًا مبدعًا يجيد لغة القصة والرواية، واستخدام الفكرة وتحوير المعنى وإبراز القيمة، فقد بزغ ذلك في لغة الكتب القصصية، التي تنوعت بين الاجتماعي والتاريخي، حين أبدع في رسم صورة مكة قديمًا وحديثًا في كتابه “تاريخ مكة”؛ ويعد كتابه ذلك تأريخًا لأم القرى عبر التاريخ السياسي والاجتماعي والعلمي والأدبي والعمراني.
حضور دائم
أحمد السباعي في سطوة غيابه مؤرخًا وقاصًا وأديبًا وصحافيًا، لازال حتى يومنا هذا يسجل حضورًا، حاله حال أجيال لم ينهكها تعب الحياة، لأنها أوجدت من حروف التعب متعة، ولم تر في مشقة السباحة في بحور المعرفة، إلا شقشقة الفجر بعد الظلام؛ لذلك هي حاضرة في وجدان الباحثين عن المعرفة ليتفيؤا ظلال أشجارها في كل جيل آت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *