تحقيق

التفكك الأسري حصاد اختلاف ثقافات الأجيال

تحقيق – نوره العمودي
من المعتاد دومًا مواجهة الكثير من المواقف التي تبرز فيها الاختلافات الثقافية والفكرية بين الأطراف، وبحكم التربية والمجتمع المحيط والآثار الاجتماعية والنفسية على الأفراد تتعارض القيم والثقافات، ومع التطور العلمي والتكنولوجي تغيرت المفاهيم وتعددت زوايا النظر للأمور، فأضحى الاختلاف أمرًا واقعًا لابد منه، ولكن التأقلم والتعايش معه هو الأهم.
ولكن كيف إذا كان هذا الاختلاف الثقافي أو الفكري مع أحد الوالدين! فنضطر للوقوف حائرين أمامه، فمنزلة الوالدين غير مطروحة للنقاش، وهي أمر مفروغ منه، ولكن نسأل هنا عن الثقافة، وعوامل تشكيلها وتأثرها، وأسباب الاختلافات الأسرية، وما هي آثار الاختلاف على كل من الوالدين والأبناء، وكيفية تعايش الأبناء معه دون الانقياد للعقوق بالوالدين، وما الذي يجب على كل والدين فعله لاحتواء أبنائهما، والوقوف معهم يدًا بيد لمواجهة كل تأثير واختلاف دون الإخلال بكيان الأسرة.
بر الوالدين
يقول شجاع سعود الدوسري – إعلامي وداعية إسلامي – إن بر الوالدين من أعظم الحقوق، ويستدل على ذلك بإقران الله للبر بعبادته وحده لا شريك له {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى وحث على البر بهما، ويظهر ذلك جليًا في قصة من جاء يطلب الجهاد مع رسول الله وسأله إن كان له أبوين؟ وأجاب بنعم، فأمره بالذهاب وبرهما.
مفهوم الثقافة
وفيما يخص الثقافة، يقول د. رجب بريسالي – استشاري الطب النفسي في مستشفى حراء والحرس الوطني – إن الثقافة بمفهومها الاجتماعي هي عبارة عن مركب غاية في التعقيد، يتكون من مجموعة من أنماط السلوك وطريقة التفكير، إضافة إلى المشاعر والسمات الشخصية لدى الفرد، وهي بطبيعة الحال تختلف من فرد إلى آخر، بل ومن قُطر إلى آخر. وتلك الثقافات المكتسبة غالبًا ما تتأثر بالمؤثرات الخارجية سواء سلبًا أو إيجابًا.
الخلاف والاختلاف
وينوّه شجاع الدوسري إلى أن الخلاف غير الاختلاف؛ فالخلاف مع الوالدين عقوق، أما الاختلاف فيكون في وجهات النظر وما شابه، وهذا أمر طبيعي.
شجاع الدوسري:  الخلاف مع الوالدين عقوق بينما الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي
والمفترض أن الاختلاف بينهما لا يجعل الابن يعصي والديه؛ لأن التعامل مع الوالدين ليس كالتعامل مع من سواهم.
العلاقة بالأبناء
ويعتقد د. شجاع القحطاني – استشاري اجتماعي أسري – أن علاقة الوالدين بالأبناء هي علاقة تراكمية، تبدأ منذ لحظة الميلاد حتى الوفاة. تتمثل في عملية عطاء مستمر للوالدين تجاه أبنائهم، وللأبناء تجاه الوالدين، أي أنها عملية مشتركة تفاعلية تبادلية.
تأثير العولمة
ويقول د. رجب بريسالي إننا نعيش اليوم في زمن العولمة والسرعة ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، التي جعلت العالم كقرية صغيرة، كل ذلك أحدث فجوة، بل هوة كبيرة في مفهوم الثقافة بين الوالدين وأبنائهم، وتلك الاختلافات نتج عنها الكثير من عدم التوافق الفكري والسلوكي والتربوي بينهم.
أسلوب التربية
كما يضيف شجاع الدوسري أنه أحيانًا قد يكون الوالدان تعودا على أسلوب التربية بالشدة وفرض الرأي، دون الرجوع لرغبات الابن أو مراعاته، وبالتالي يحاولان تطبيق هذا الأسلوب مع أبنائهم، وقد يلاقي الأمر رفضًا وامتعاضًا منهم، يمكن أن يؤدي للعصيان ويقود للعقوق بالوالدين.

ازرع. . لتحصد

ويؤكد د. شجاع القحطاني على أن ما يزرعه الآباء والأمهات في أبنائهم خلال مراحل حياتهم المبكرة، يحصدونه عند بلوغهم مرحلة عمرية أكبر، ويستمر طوال الحياة. مثل: زرع الحب فيهم، الاحترام، التقدير، العطف، حسن المعاملة، وتعزيز الثقة. ويكمل أنه بكل تأكيد سيقطف كل والدين ثمار جهدهم مع أبنائهم، وسيجدونهم بارين حنونين عطوفين، مهما اختلفت الأفكار والمبادئ بينهما، والعكس صحيح في حال وجود التفكك الأسري والمشاحنات واستخدام الضرب والعنف والإهانات؛ ما يجعل الأبناء يبحثون عن الأمان والحب في علاقاتهم بالآخرين، مثل الزملاء والأصدقاء.
د. رجب بريسالي: مؤشرات اجتماعية سيئة بسبب اختلاف الثقافات وضعف الوازع الديني

نتائج التباين

يعلق د. رجب بريسالي عن نتائج الاختلافات قائلًا إنه أصبح من الصعوبة السيطرة على الأبناء والبنات على حد سواء، وكثُر التنمر والعناد والعصيان، فانتشر العقوق وتفككت الأسر، وترتب على ذلك ما نسمعه ونشاهده هذه الأيام من قصص مؤلمة للعديد من فتياتنا، وخروجهن عن المألوف في مظاهر اللباس والحشمة، بل تعدى الأمر إلى هروب بعضهن؛ كل تلك المؤشرات الاجتماعية السيئة كانت نتيجة حتمية لاختلاف الثقافات وضعف الوازع الديني.

أنا أكره والدي!

ويذكر د. شجاع القحطاني فيما يخص سوء العلاقات بين الوالدين وأبنائهم، أن إحدى الحالات بالعيادة كانت شابة في عامها الـ٣٠، تزوجت وتطلقت، وكانت من ضمن الأشياء التي تعاني منها علاقتها بوالدها، فكانت تكرهه وتدعو عليه بالموت! ويرجح سبب فشل زواجها إلى أن الأب غالبًا ما يمثل الصورة المثالية للرجل عند كل فتاة، وهي لم تكن علاقتها به جيدة، ولم يتمثل لها بالصورة الذهنية الصحيحة.

سوء علاقة شابة بوالدها كانت سببًا في فشل زواجها

ويذكر حالة أخرى كانت لفتاة تدعو على والدتها بالموت!، ويضيف أن هذا من أسوأ ما يمر به الإنسان ،وهو وصول الابن أو الابنة لمرحلة الكراهية تجاه والديهما والدعاء عليهما بالموت؛ بسبب الاختلافات والمشاحنات، ما يقود للعقوق بهما وإهمالهما في الكِبر.

لغة الحوار

كما يرى د. رجب بريسالي أن الحل لسد تلك الهوة يأتي بتقرب الوالدين تجاه أبنائهم وبناتهم، مع تغليب لغة الحوار في أجواء تسودها الألفة والمحبة وبعيدة عن الانفعال والعصبية.
ويؤكد على أهمية اختيار الأبناء للصحبة الصالحة والقدوة الحسنة، وحبذا لو كانت من أشخاص مقربين جدًا من أفراد العائلة.

التلطف والتأدب

يوصي شجاع الدوسري الأبناء أثناء الاختلاف بالتلطف والتأدب مع الوالدين والإنصات لهما، واختيار الوقت المناسب للنقاش، والتماس العذر، واستحضار فضل بر الوالدين ومعرفة أنه من أهم أسباب تحصيل التوفيق في الحياة.

أجيال مختلفة

ويؤكد على أهمية إيمان الآباء والأمهات بأن الوضع اختلف عن سابقه، وأن الأبناء اليوم على اطلاع دائم ودراية، ويميلون للتعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم بخلاف الجيل السابق، الذي كان يأخذ كل ما يمليه عليه والديه؛ لأن الرغبات كانت محدودة وكادت أن تكون معدومة.

مساحة حرية

ويحذر شجاع الدوسري الآباء من أن يكونوا سببًا في عقوق أبنائهم بهم، فيجب ألا يبالغون بفرض رأيهم، ويتسببون في خلق جو من المشاحنات، يسوده يأس الأبناء من عدم استماع الوالدين لهم ولرغباتهم. كما أنه من المهم جدًا ترك مساحة من الحرية للتعبير عن آرائهم، خاصة ما يتعلق بقراراتهم المستقبلية، وتقديم الاحتواء والنصح لهم، بدلًا من لجوئهم لرفقاء السوء أو المواقع الهدامة.

الجانب العاطفي والنفسي

وينصح الوالدين بالعدل بين أبنائهم، والحرص على فهم نفسياتهم، فهم مختلفون في سماتهم وشخصياتهم، ولابد من إعطاء كل منهم ما يحتاجه.
د. شجاع القحطاني البحث عن كمال الأبناء مستحيل والقدوة أفضل معلم
ويقول إن إهمال الجانب النفسي للأبناء قد تكون عواقبه سيئة جدًا، فعليهم بتغذية العاطفة وإشباع الجانب العاطفي والنفسي لكل منهم.
القدوة أفضل معلم
ويوصي د. شجاع القحطاني الوالدين بضرورة الوعي بأن كل مرحلة عمرية يعيشها أبنائهم قد يتخللها نوع من الطيش والتسرع والأخطاء، فالبحث عن كمال الأبناء مستحيل.
ويؤكد على أن القدوة هي أفضل معلم للأبناء، فإذا أردت منهم تعلم السلوك الحسن، كن أنت القدوة الحسنة لهم، لأنهم يتعلمون من خلالها أكثر من الكلام وتوجيه النصائح النظرية.
ويختتم بأنه إذا كنت بارًا بوالديك، عطوفًا على إخوتك، تفعل الكثير من الأشياء الحميدة، بكل تأكيد سيأخذ أبناؤك هذه الخصال منك رغم الاختلاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *