إنما البعثُ للمدر أيضًا، إنه يغتسل الآن بماء عين جرت منذ عصر ما قبل التأريخ حتى تأريخه! إنه يغتسل عن خطيئة الجفاف.. يغتسل فلا يزدد الطينُ إلاّ فُلة!
نعم إنه للمدر الذي أتعاهد زيارته منذ تحنثي القديم.. منذ أن جعدته العجافُ سنةً وراء سنة حتى صار بحجم قبضة الكف.. حتى حُنط هيكلًا، ليُحفظ في ذاكرة بعض ممن يتوكؤون على منسأة البقاء.. الذين يجأرون كل ما دُق زير: “المرعبات الخيل، والمال النخل”!
إنني أرقب تشكله الآن وجبةً بعد وجبة.. إنه يتفتق عن ورقِ جنة ليواري سوأة الجفاف! وهاهو يبسط كف البذل ليتشجر عطاءً وبركةً، ويتوسع للدرجة التي أسمع صدى قول ذلك الثمانيني حينما كان يختم حديثه عن القرية بجملة: كان المدر أكبر!
فأتناول من رف الذاكرة القصي ردة فعلي إزاء قوله آنذاك، وأنا أنظر لبيوت الطين مرددًا: ولكن هذه الدور التي تعتلي الأمدار لم تقترب! ثم أُطرق محدثًا نفسي: يا للكبار إنهم يأتون بالعجائب!
كبرت، وعرفت الآن بعد مخاض العين العسير؛ كيف أنها أنجبت نهرًا صالحًا يدعو للسعة، وينبذ الضيق! وعرفت أن ذلك الشيخ الوقور قد اغترف غرفة بيده من بِكر سلالة الري، ومن نخبه القديم الذي مخر قصبة الأرض؛ فانتشت به روحه، وتوسعت أفقُه فأصبح يرى، ويصف ما لا يستطع عليه من لم يشاهد سوى أعجاز نخل خاوية تمد ظلالَها الشمسُ ذات اليمين، وذات الشمال!
هنا في وادي النعيم يجري الماءُ؛ فتقف على ضفتيه أسوقة الإخضرار، فتهوي إليه أفئدة الطائفين الساعين إلى البهجة.. إنهم يبتهجون حينما يرون فزاعةً للتو صُلبت على صدر مدرٍ كان قبل أشهر يبعث الفزع!
هنا تهبط الطيور المهاجرة، فلا تواصل خط سيرها، فقد أخفت الخيوفُ خارطة طريقها لتجعل الواديَ دار قرارٍ يحتضنها حتى الفناء، لتقبض الطيور أجنحتها فتنصب خيام البقاء! ففي ينبع النخل وحدها تمد الفزاعةُ ذراعيها للطيور: أن هلموا!
وهنا أيضًا لك أن تصغي السمع لخرارة عين عجلان وهي تشنف الآذان، حينها يأنِ لك أن تقول: عندما تعزف الطبيعة لحن الحياة؛ على العنادل أن تغني!
لا أجيد الإطالة أبدًا، كما أنني لم أوتَ فن الاختصار، إلا أنني أستطيع القول: ينبع النخل تبعث الآن، وما مسجد ابن وفاء إلا بيتٌ تجري من تحته الأنهار! فيا للبعث الذي لا أهوال تسبقه!
بقلم – عطاالله الجهني