المشاهير

عبدالله الجفري «شيخ الرومانسيين» وأديب الصحافيين

اقرأ- آمال رتيب
عندما يأتي الحديث عن عبدالله الجفري٬ ترتسم أمامك صورة للرومانسية ودماثة الخلق٬ أطلق عليه صديقه ورفيق دربه الدكتور محمد عبده يماني ” شيخ الرومانسيين”، فأنت لا تتحدث فقط عن صاحب “الظلال” وأول من كتب “المقال الذاتي”٬ لم ينف عن نفسه تهمة الرومانسية بل كان يعتز أن مفرداته الوجدانية هي بطاقة تعريفه لدى القراء.
صحافة

عرف بهذه السمات منذ خطواته الأولى من خلال الصحف الشهيرة في تلك الفترة، فكانت قريش الأسبوعية لأستاذ الجيل والمبدع أحمد السباعي، تفتح الصفحات الأولى للشباب القادم بقوة في نظرته للحياة والأدب الجديد تحت ظلال أدب الحياة، فكانت زاوية الجفري (في يوم في شهر في سنة) بمثابة الافتتاحية الجمالية للجريدة بعد مقالة الشيخ السباعي (من هنا كان الطريق)، وكما يطل كبار الكتاب في ساحة قريش (حسين سرحان، حسين عرب، محمد سعيد العمودي، محمود عبدالوهاب، عبدالعزيز الرفاعي، محمد حسين زيدان، الأب عزيز ضياء.
إعارة

عمل الجفري موظفًا في إدارة الأمن العام في بداية حياته، ثم انتقل إلى وزارة الإعلام في قسم مديرية الصحافة والنشر والمطبوعات٬ ثم تمت إعارته من وزارة الإعلام إلى عدّة صحف في أعوام متتالية، فعمل سكرتيرًا لتحرير صحف «البلاد» و«عكاظ» و«المدينة»، ثم مسئول التحرير بصحيفة «عكاظ»، وشغل منصب نائب الناشرين في الشركة السعودية للأبحاث والتسويق التي تصدر صحيفة «الشرق الأوسط»، ثم ترأس الصفحة الثقافية، وصولًا لمنصب نائب رئيس التحرير للشئون الثقافية. وأسس مكتب جريدة «الحياة» اللندنية بجدة٬ واشتهر لدى القرّاء العرب عن طريق عموده اللاذع اليومي في صحيفة «الحياة» اللندنية، «نقطة حوار».
الشعر المنثور

كان الجفري يتصدر الصفحة الأولى بمقالة هي شريحة تحمل سمات شعرية محلقة في سماء المعاني عبر جمالية الأسلوب، الذي كان يمثل خاصية متفردة به جعلت الشباب المتلمسين لطريق الكتابة ينضوون تحت مظلة أسلوبه الساحر، وكم كانت مقالاته تتداول بين الشباب لأنه كان يلامس همومهم ويصور لهم الوجدانيات الممزوجة بالوقائع الحياتية الجادة٬ ويوصل إليهم عبر الكلمات المعبِّرة عن الحالة في وقتها مع مزجها بالصور الإيضاحية التي تتكئ على علامات الحب والجمال في تحليق روحي سام يجسد توهجات النفس وتوجهها للمشاركة الوجدانية، فالجفري محب وعاشق للحياة والناس يتعامل برقة ووداعة يحف بها الذوق في استخدام العبارة الدالة عن المكنون بشكل مقبول ومحبوب، وظل عليه في كتاباته في كل الجرائد والمجلات التي عمل معها ٬ وتميز عن سواه باستمرار العطاء عبر الكتب التي أصدرها من قصص وروايات ودراسات تزيد عن 30إصدارا٬ كلها لها أثرها الجيد في الساحة الثقافية العربية عامة والداخل الذي يعطيها مكانتها التي تمثلت في استقبال النقاد والكتاب لها عبر ما سطروه حولها وحول الجفري صاحب القلب الشفاف الذي بادله الجميع حبًا بحب.
الحزن

أما رواياته فكانت متنفسه عن الحزن الملازم له٬ ربما كان قول نزار قباني” أن الإنسان بلا حزن نصف إنسان” هي الترجمة الحقيقية لحزن الجفري الدائم والذي يصل به إلى عمق النفس البشرية٬ وله كتاب بعنوان” حوار عن الحزن الدافئ”٬ فالحزن كان حاضرًا في أغلب كتابتها ورواياته يقول في واحدة من رواياته” أيام معها” حتى العشق بارد لأنه تحول عند الكثير إلى حافز يخضع للمتناقضات في حياة إنسان هذا الزمان، ولأنه عشق معلب نفتحه في الليل إذا ما ترددت الأصداء المتناقضة في داخل النفس وخارجها، ونقفل عليه في النهار لنجري وراء الوراء، ذلك الذي يحدد مستوى معيشتنا ونسبة الترف في استخداماتنا المالية، بينما يزداد في كل يوم تفريغ الوجدان من العواطف الصادقة، وتجف العقول من فكرة الخير والشر .
غنيت مكة
أما الحديث عن مكة فكان غناء الجفري الذي لا ينقطع٬ يذكر مكة فيقول عنها: «مكة المكرمة أمي التي أرضعتني الخير والأمان والإيمان.. مسقط رأسي الحضن الذي زمَّل طفولتي بالدفء» ٬ وأعتز أنني كنت واحدًا من ذلك الجيل الذي استرغد في جلال وخشوع المسجد الحرام، مذاكرًا لدروسي بصحبة زملائي، ومؤديًا للصلاة.. فالمسجد الحرام هو أول مدرسة في الإسلام أضاء العلم من جنباته وأروقته وحصاويه.
إن مكة المكرمة شكَّلت لي حضن الأم فترعرعتُ تحت سمائها، وفوق ترابها الطاهر، وتشكلت إنسانيتي، ومعرفتي، وعلمي، ووجداني من ذلك النور الذي يشع من جنباتها أبدًا، حتى كأن روح الإنسان تُحلِّق.
هناك في قاعة الشفاء، التابعة لمحلة (الشامية) كان الميلاد والنشأة، وعندما هيأني العمر لبدء الدراسة في المدرسة (الرحمانية) في المسعى، وزميليّ محمد سعيد طيب، ومحمد إسماعيل جوهرجي، كنت وكثير من زملائنا نستقبل الكعبة بعد عصر كل يوم نصلّي، ونتذاكر دروسنا جماعات، في روحانية الحرم.
ويكبر بنا العمر.. وتأخذنا الحياة بما تضطرنا إليه من بِعاد واقتراب، ومن وصال والتهاء بمشاغل الدنيا٬ ونترك السكن في مكة المكرم لنحلَّ في مدينة جدة، ولكن مكة المكرم لا تتركنا، تبقى ساكنة في صدورنا، معمرة نفوسنا، متجذرة في أعماقنا، فإذا كان الكثير من أبناء مكة قد هجرها ـ كمدينة ـ سعيًا وراء الرزق، والطموح، والفرص الأوسع بكل أسف فإن مكة أكبر من الهجر، ملتحمة بمشاعرنا. وعندما نتحدث عن مكة المكرمة، فليست هي أصواتنا التي تتكلم، ولا هي أقلامنا التي تكتب.. بل هو حديث الروح، وكلمات تضيء نفوسنا المحتاجة إلى نور مكة المكرمة لتزيل الكثير من العتمة في زواياها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *