المشاهير

طلال مداح قيثارة الشرق

بقلم- أميمة الفردان
“الله يرد خطاك لدروب خلانك/ لعيون ما تنساك/لو طال هجرانك/ دام الأمل موجود فالنفس خضاعة/ حق العيون السود السمع والطاعة”. كلمات رسمت المشهد الأخير لآخر سيمفونية غنائية من جيل الكبار، في منظرٍ دراماتيكيٍ، لا زالت آثاره محفورة في أذهان السعوديين، ومطبوعاً في قلوب عشًاق الصوت الطلالي. من على مسرح المفتاحة بأبها، الذي شهد انحناءة آخر أغصان خميلة الفن السعودي.

طلال مداح الذي لعبت المقادير؛ في حياته لعبتها الأثيرة. وكتبت شهرة صوت الأرض خارج حدود شبه الجزيرة العربية، مذيلة بتوقيع لحني من الموسيقار سراج عمر، رسم كلماتها الأمير محمد العبدالله الفيصل، أيضا ساهمت إلى حد كبير في تأرجح حياة المداح على حبالها؛ فيما لسان حاله ظل يردد لأخر لحظة. “مقادير يا قلبي العنا/ مقادير وأتمنى الهنا”
منذ صرخة الطفولة حينما خطف الموت الأم؛ بعد اقل من 45يوماً، بدأت أول الندوب في تشكيل روح صوت الأرض، ليُحرم حنان الأمومة كما قال هو عن نفسه؛ “لم اشعر قط بحنان الأمومة، خالتي هي من تولت تربيتي”، على مدى خمس سنوات، قضاها المداح بين أزقة وشوارع مكة المكرمة، حفرت داخله أبجديات ابن الحارة؛ بكل بساطته وعفويته، لينتقل بعدها إلى خمائل البستان الطائفي؛ في مرحلة أخرى لم تخلو من مرح الصبا الأول، ممزوجة بمرارة يتم الأمومة .
الطائف كانت على موعد مع فنان من الوزن الثقيل؛ من خلال جلسات السمر والصحبة، التي كشفت عن عذوبة صوت. قارب في جماله تغريد الطيور، وفاق في رقة إحساسه، طباع البشر، الأمر الذي كان بمثابة بطاقة المرور الأولى للقلوب، والتي جاء حصادها مطالبات بصوت الأرض؛ في حفلات الفن الطائفي، من قبل جماهير ذواقة لم يكن يرضيها؛ إلا الصوت الطلالي، ورنة شدوه في الليالي المقمرة. ولسان حالهم يردد “الليل ما يحلى الا بجلاًسه/ والقلب ما يسلا/ اهل الهوى وناسه/وانت الحلا كله/ وانت الهوى واهله/ ياحلو يا غالي / يازينة المجلس”.

لم يكف ِ موظف البريد حينها، وصف مطرب حفلات. ليبدأ مرحلة عكف فيها على تعليم نفسه، بدأت بأوتار العود، عبر معلمه عبد الرحمن خوندة، فيما اخذ حينها الراحل الكبير عبدالله محمد؛ على عاتقه تعليمه مقامات الغناء، بدأها بأداء الدانات المكية القديمة، التي وطدت علاقة المداح بفن الغناء، وعشقه لعالم الموسيقى، مردداً على رنات الإيقاع “عشقته ولا لي في المقادير حيلة/ أحبه ولا أسلاه/ وحشمة مليح الوصف/ ماهي قليلة/ على الراس مغلاه/ أسرني بنظرات العيون الكحيلة/ وكم من جرح داواه/ ياليته يواصلني/ ويكسب جميلة/ وأنا بروحي أفداه”.
ولم يقف صوت الأرض عند غناء الدانات؛ التي أبدع في أدائها أمام كبار مؤديها؛ في ذلك الوقت من أمثال محمد علي سندي، وفوزي محسون وغيرهم؛ من العملاقة السعوديين حينها، ليواصل تاديتها وتلاقي استحساناً. ربما كان من أبرزها أغنية “يقول عبده اليماني، وشفت القمر في مرايا”. لأنه كان على موعد مع القدر مرة أخرى؛ حينما سنحت الفرصة لصوت الأرض أن يتسلل بعذوبته لأذن مذيع الإذاعة السعودية وقتها عباس غزاوي، الذي قدَم طلال عبر مسرحها؛ بعد رحلة العودة لموطن الطفولة مكة المكرمة.

العام 1380هـ، لم تكن فقط بداية الإحتراف؛ بل كانت بمثابة توقيع عهد دائم بين طلال والطلاليين، التي بدأها المداح بإهداء من قبيل تقديم الشكر والعرفان؛ لأول احتضان له تحت خمائل الورد الطائفي، عبر رائعته التي لاقت رواجاً وقبولاً، وسكنت أفئدة السعوديين في منتصف الستينات “وردك يازارع الورد”، الأغنية ذات الإطلالة الصباحية، عبر أثير الإذاعة السعودية لم تكن فقط اهداءً، بل شكلت لغطاً حول هوية كاتبها الحقيقي، إلا أن سماحة المداح وميله للبعد عن المشاكل، حلت الأزمة ودياً، لتظل الأغنية منسوبة باسم عبد الكريم الخزامى وموقعة لحناً وغناءً لصوت الأرض.
مرة أخرى تعود لعبة الأقدار، لتحمل عذوبة الصوت الطلالي؛ على أجنحتها مسافرة نحو عاصمة الفن العربي في ذلك الوقت القاهرة، وعبر أثير اذاعة صوت العرب، في حفل موسيقي، لم ينل منه طلال الشيء الكثير، برغم مغازلته لأذن السمَيع المصري، الذي ظل يردد على مسامعه “يا قمر تسلملي عينك يا قمر”، وتفشل أولى حفلاته الخارجية، الا أن إصرار ابن الحارة المكية، حمله على العودة هذه المرة على أجنحة مقادير محمد العبدالله الفيصل، وشكلت أول بطاقة تعريف بطلال مداح لدى المستمع العربي، ظل يتغنى بها أجيال من أبناء الغناء العربي، ليس آخرهم التونسي لطفي بشناق، والمصرية أنغام، إلى جانب وردة الجزائرية.

المشاركة التي ربطت بين المداح والفنان لطفي زيني، كان لها أثرها في الرحلة الطلالية، هذه المرة لم تكن موسيقية؛ إنما حاول المداح دخول تجربة التمثيل؛ عبر فيلم سينمائي يتيم بمشاركة الشحرورة صباح، لم يخرج فيها دور طلال عن “صديق البطل، يعني صاحبه اللي بيغني”، كما قال هو بنفسه في احد لقاءاته التلفزيونية، في حين اكتفى على الصعيد التلفزيوني؛ بمسلسل واحد مع الفنان حسن دردير لم يشاهده المداح ابداً، تحت عنوان شمس الأصيل. فشل تجربة التمثيل لم تمنع سجل النجاحات؛ من فتح أولى صفحاته لصوت الأرض، مع أبرز كتَاب الكلمة السعودية من أمثال محمد العبدالله الفيصل، وبدر بن عبد المحسن وخالد الفيصل؛ إلى جانب صالح جلال والمنتظر وغيرهم كثير، فيما طبعت الحان سراج الكثير من أغنياته.
وظلَت ريشة القلم، تتابع كتَابة تاريخ إنسان حمل بين جنباته روح فنان. حلَقت في الآفاق عالياً؛ لتداوي القلوب من غربتها في أغنية “أغراب”، وأخرى تراه يصدح عشقاً بالحب والحياة ولسان حاله يقول “تصدق ولا احلف لك/ عجزت بلساني أوصف لك/ نعيم الحب في وصلك/ وانت كريم من أصلك/ وشوف قلبي على يدي/ وهو أغلى ماعندي/ وتبغى زيادة في حبك/ أجيب لك قلب تاني منين”.
ولأن الفن لا يطعم خبزاً لم تنجح السفينة الطلالية في الإفلات من قبضة الحاجة،الأمر الذي خيَب آمال قبطانها. داعياً إياه ليردد “بحر العيون/خدنا معه مشوار/ موجه غدى بينا/ بحر العيون لا توهق البحار يبعد المينا”، وهو ما ساهم في تسجيل طلال لأكبر نسبة مجاملات؛ في الوسط الفني على حساب فنه؛ ما دعى كثيرين؛ لإنتقاده في تلك الفترة، الا أن ذلك لم يحرك شعرة في رصيد المداح من المحبة في قلوب عشَاقه، برغم أن راية العتب الطلالي، كانت حاضرة ومرفوعة باستمرار؛ لتؤدي رسالة لم يخرج مضمونها عن كلمات؛ لطالما رددها الطلاليون”الحياة صارت تقيلة/ وابتساماتي قليلة/ كل دى حصل لي/ ومالي في اللي حاصل أي حيلة”.

الا أنه وفي خضم البحث عن لقمة العيش، ظل مكتفياً بالحنان الذي أحيط به من قبل جماهيره ، كتعويض عن رحلة الحرمان الطويلة منذ بداياته وظل يغني “عطني المحبة/ كل المحبة/ عطني الحياة/ عطني وجودي/ ابغى وجودي/ اعرف مداه/ أملى شعوري في الحب مرَة/ ابغى هواكم حلوه ومره/ واغلى الأماني/ عاشت في غربة/ يا عمر تاني/ عطني المحبة”. الحياة التي أتعبت قلب المداح، وجعلت حظوظه في الحياة قليلة. كان حكمها بغياب ضحوك السن القسري قاسياً ، وأجبرت الطلاليين على قبوله، الا أنها لم تحرمهم متعة الاستماع إليه، والغناء له “أحبك لو تكون حاضر/ احبك لو تكون هاجر/ ومهما الهجر يحرمني/ راح امشي معاك للآخر/سنين وسنين وأنا صابر/ وراح اصبر كمان كمان/ وبحر الشوق يلعب بي/ الين أوصل لشط أمان”.
تلك الكلمات لسان حال عشَاق الفن الطلالي ، بعد مرور ثمانية أعوام هي عمر الرحيل، الأكثر ايلاماً في تاريخ الأغنية السعودية. فيما ظل صدى صوت المدّاح يدغدغ مشاعر الكثيرين بمفردات الرحيل التي بدأ بها صوت الأرض مشواره الفني.”وترحل صرختي تدبل/ في وادي لا صدى يوصل/ ولا باقي أنين/ زمان الصمت/ياعمر الحزن والشكوى/يا خطوة ما غدت تقوى/ على الخطوة/ على مر السنين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *