بقلم: السعد المنهالي
ضم أحد الصفوف في مقاعده 35 طالباً مراهقاً، وصلوا للتو وبالكاد وبأقل الدرجات إلى الجامعة. وضحت تماماً معالم المراهقة بكل سلبياتها في تفاصيل هيئتهم الخارجية وتصرفاتهم الصبيانية التي بدت جلية في لامبالاتهم بالصف والجامعة بأسرها، وبطبيعة الحال بذلك الأستاذ القابع أمامهم بنظارته السميكة وسنوات عمره التي جعلته وكأنه من عالم آخر لا ينسجم مع عالمهم الذي يعرفون عنه أكثر بكثير مما يعرفه!
عندما طرح عليهم أستاذ الأدب الفرنسي سؤاله -الذي كان بالنسبة لهم طوق نجاة من تكاليف الفصل الدراسي-: من لا يحب القراءة؟ بدأ الصف بأكمله غابة من الأصابع المرفوعة، حتى الطالبة الوحيدة التي لم ترفع إصبعها، كان ذلك لأنها غير مبالية أساساً بالسؤال ولانشغالها بأظافرها. وجد الأستاذ نفسه أمام هذا الكره للقراءة واللامبالاة حتى في استعدادهم للمناقشة بشأنها، أعلن الأستاذ (حسناً.. بما أنكم لا تحبون القراءة.. أنا من سيقرأ لكم). فاجأ الرجل هذه الكوكبة من المراهقين الذين سيكون عليهم الاستماع إليه طوال العام الدراسي!
بالتأكيد كان الأمر مفجعاً، خصوصاً عندما فتح الأستاذ حقيبته وأخرج أمامهم كتاباً ضخماً، وبدأ في قراءته ، وهكذا استمر الأستاذ في قراءة الصفحات الأولى من رواية العطر للكاتب «باتريك زوسكيند» في نسختها الفرنسية، واستمر كذلك حتى الصفحة 35، فأغلق كتابه وانصرف، فوقت المحاضرة قد انتهى.
حسب ما يخبرنا به الأستاذ، أن الطلبة الذين حضروا الصف فيما بعد كانوا أكثر اهتماماً لسماع القراءة، كما أبدوا اهتماماً أكبر بطرح الأسئلة حول الكتاب والكاتب، وهو ما ظهرت نتائجه فيما بعد. إذ لم يصبر أي تلميذ منهم على قراءة الصف، فذهبوا واشتروا الرواية وأتموها قبل أن ينتهي الأستاذ من قراءتها.. لقد أدركوا حقيقة مفادها: لماذا تُؤخر متعة يمكن التلذذ بها في أمسية واحدة!
لقد تمكن الأستاذ من مفتاح السحر، فقرأ لهم؛ قد يكون هذا الفعل هو خيط المتعة الأول الذي سيذهب بهم بعيداً إلى عالم الكتب والقراءة؛ بالتأكيد سيلتقطونه، عندما لا يرفق بالأوامر والإجبار على تلخيص وعرض وامتحانات تحريرية واختبارات شفهية وعروض محرجة لنتأكد أن هؤلاء المساكين قد قرأوا. نقوم نحن الكبار تجاه الصغار والمراهقين بأفعال طالما كرهناها من الكبار عندما كنا صغاراً. إنْ أردناهم يقرؤون، فقط علينا أن نثير فضولهم.. أن نقرأ لهم.