على خارطة التاريخ، تمثل مكة المكرمة المدينة الأكثر قدسية وجمالاً، وفي ذاكرة زوارها تبقى أكبر من الأوصاف والتعابير؛ فالواقف على ترابها في حرم آمن، والقارئ لأيامها يلمس تاريخا متألقا، وآثاراً تعيده للزمن القديم، بالإضافة إلى حداثة عمرانية بألف صورة وعنوان، وتوسعة وحراك دائم ودنيا لا تنام، في مكة المكرمة تأخذ السياحة منحى مختلف؛ فكل شيء يحتاج لرحلة طويلة الأيام، وفي رمضان شهر العبادة والغفرات؛ تعد مكة المكان الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين؛ تقرباً للمولى وللرسول الكريم وصحابته الأخيار، واسترجاعاً لتاريخ مجيد، كما أن الأمر لا يخلو من متعة السياحة، نصحبكم في جولة بالمدينة المقدسة.
مكة فجراً
مع أذان الفجر تستقبل مكة يوم جديد، أذان يطرب المسامع، وقلوب طيبة تركض إلى الرحاب، وتخطو إلى ساحة لا يرد فيها دعاء، هذه هي العاصمة المقدسة مفتاحها أذان الحرم، ونورها القرآن الكريم، ولسانها ذكر الله، مدينة مولد خاتم النبيين، التي قالت عنها عائشة بنت الصديق رضي الله عنها:” لولا الهجرة لسكنت مكة، فإني لم أرَ السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأنَّ بمكة، ولم أرَ القمر بمكان أحسن منه بمكة”، كلمات السيدة عائشة تتجدد وكأنها قالتها الآن، وليس من قرون مضت، فمكة هي الحبيبة إلى الله وإلى قلب رسوله وأفئدة كل المسلمين.
جغرافيا وأرقام
تقع مكة في الجهة الغربية من المملكة، في وادٍ من أودية تخوم جبال السراة، تحفها الجبال من كل جانب، يحدها من الشرق الرياض، ومن الجنوب مناطق عسير والباحة وجازان، ومن الشمال المدينة المنورة، ومن الغرب جدة، تبلغ مساحة مدينة مكة 850 كم²، منها 88 كم فقط مأهولة بالسكان، فيما تبلغ مساحة المنطقة المركزية المحيطة بالمسجد الحرام حوالي 6 كم²، ويبلغ ارتفاع مكة عن مستوى سطح البحر 277 متراً.
50 اسمًا
اختلف المؤرخون في ماهية اسم مكة، والمدهش أن كتب التاريخ تحمل لمكة أكثر من 50 اسمًا وكنية؛ قيل إنها سميت مكة لأنها تمكّ الجبارين.. أي تذهب نخوتهم، ويقال سميت مكة لازدحام الناس فيها، ويرى آخرون أنها سميت بكة لأنه لا يفجر أحد بها أو يعتدي على حرماتها إلا وبكت عنقه، وقال فريق آخر إنها سُميت مكة لأنها كانت مزاراً مقدساً يؤمه الناس من كل الأنحاء للتعبد فيه، وقد ورد في بعض الكتابات القديمة مدينة تسمى مكربة، وذهب باحثون إلى أنها مكة.
“عمر” والتوسعة الأولى
وبعيدا عن الجغرافيا والتاريخ، يبقى تتبع مراحل التوسعة من بدايتها إلى نهايتها سياحة أخرى، بدايتها كانت مع عمر بن الخطاب صاحب التوسعة الأولى عام 17 هـ، حيث تمت زيادة مساحة المسجد 560 متراً، بعد تعرض المسجد الحرام لسيل”أم نهشل”، نسبة إلى سيدة جرفها السيل، مقتلعا مقام إبراهيم من موضعه الحالي، ورد الخليفة”الحجر” إلى مكانه، واشترى البيوت القريبة من الحرم وهدمها، ثم أحاط المسجد بجدار قصير، وقال عمر رضي الله عنه:” إنما نزلتم على الكعبة فهَو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم “.
وتوسعات أخرى قديماً
بعدها جاءت توسعة عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام 26هــ ، بزيادة مساحة المسجد لتصبح حوالي4390 متراً، وكان بن عفان أول من أدخل الأروقة المسقوفة والأعمدة الرخامية للمسجد الحرام، وبعده أعاد عبد الله بن الزبير بناء الكعبة، بعدما شب فيها حريق أثناء حصار جيش يزيد بن معاوية لمكة، وكانت التوسعة الرابعة للمسجد عام 91 هـ ، في عهد الوليد بن عبد الملك، بعد سيل جارف، وكان أول من استعمل أعمدة جلبت من مصر وسوريا في بناء المسجد، ثم زاد أبي جعفر المنصور في مساحة الركن الشامي، وشيد منارة بالركن الشمالي والغربي، ومن بعده نفذ المعتضد بالله بعض الترميمات والتوسعات من عام 281 إلى 284 هـ، وأمر بهدم دار الندوة وجعلت رواقاً من أروقة المسجد، وأدخل فيها من أبواب المسجد الحرام 6 أبواب، أما المقتدر بالله فقد أضاف مساحة دارين عام 306هـ، وشيد”باب إبراهيم”.
وتوسعات الدولة السعودية
على نفس الخطى الرائدة والاهتمام منقطع النظير، كانت توسعة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وذلك بعدما التصقت البيوت بالمسجد وانفصل المسعى عنه، وأصبح المسعى طريقاً على جانبية المساكن والمتاجر، كان الملك عبد العزيز أول من شكل إدارة خاصة سُميت مجلس إدارة الحرم، كان من مهامها إدارة شؤون المسجد الحرام ومراقبة صيانته وخدمته، ومن بعده نفذ الملك سعود بن عبد العزيز، مشروع توسعة المسجد عام 1375هـ، كانت مساحة المسجد حينها 28 ألف متر ويسع 50 ألف مصلٍ، وعلى ذات النهج نفذ الملك فهد بن عبد العزيز مشروعاً لتوسعة المسجد الحرام عام 1409هـ، بينما كانت توسعة الملك عبد الله بن عبد العزيز، جامعة بين المتطلبات الوظيفية من حيث؛ زيادة الطاقة الاستيعابية ووفرة وتنوع ورقي الخدمات، وبين التميز في النواحي الجمالية، واشتملت على أحدث وأرقى النظم الكهربائية والميكانيكية، مع الحرص على التناسق مع الطراز المعماري، وتمت التوسعة في الناحية الشمالية من المسجد الحرام على مساحة تقدر بـ 400 ألف متر تقريباً.
سياحة بـ”الساعة”
ولساعة مكة سياحة أخرى، نُفذت بأيدي أمهر الصُناع من أوروبا، بارتفاع يزيد عن 600 متر، لتكون أكبر ساعة في العالم، وقد تم تشغيلها في شهر رمضان عام 1431 هـ.
في الغار.. حكايات
نقاط الجمال في مكة كثيرة، وفي كل نقطة حكاية؛ فغار حراء حافظ للتاريخ العظيم، مكان كان يختلي فيه رسول الله قبل نزول القرآن عليه، يقع في شرق مكة على يسار الذاهب إلى عرفات في أعلى”جبل النور”، أما غار ثور، فأوى إليه النبي وأبو بكر وهما في طريقهما إلى المدينة في رحلة الهجرة النبوية، يقع على بعد نحو4 كيلو مترات عن مكة المكرمة، في الجهة الجنوبية من المسجد الحرام.
قصر وجسر
في مكة قصور ومساجد، لكل منها حكاية خاصة؛ فقصر السقاف معلم حضاري في حيّ المعابدة “الجميزة شارع الأبطح”، وهو أحد أقدم المباني الأثرية، ويحتوي على كثير من العناصر الفنية والزخرفة الإسلامية الفريدة، أما جسر الجمرات فيوجد بمنطقة منى، وهو مخصص لسير الحجاج لرمي الجمرات أثناء موسم الحج، وقد تم هدم الجسر القديم وإنشاء آخر بديل مكون من4 طوابق، بتكلفة 1,7 مليار دولار.