المشاهير

أبو بكر سالم .. قيثارة الجزيرة العربية وأبو الغناء الخليجي

يا بلادي واصلي
 أغنية بقرار وزاري

كتبت – آمال رتيب
ترجل الفارس عن جواده ، آن للجسد المتعب أن يستريح، ولقيثارة الجزيرة العربية أن تكف عن العزف ، ولثاني أفضل صوت في العالم بشهادة منظمة “اليونسكو” أن يركن للهدوء الطويل ، رحل أبو بكر سالم ، ، بعد أكثر من 60 عاما من العطاء ، شكل فيها صوته مصدر سعادة لأجيال عديدة في السعودية والخليج و كل أنحاء الوطن العربي? مزج الراحل الكبير خلال مسيرته بكل سلاسة بين أنغام وكلمات أصيلة تربى ونشأ عليها? وبين ثقافة متجددة عمل على صقلها? عندما تقول يا بلادي واصلي”، “يا مسافر على الطايف” ويا ورد محلا جمالك”? فأنت بالتأكيد تقصد “أبو بكر سالم” ؛ الأب الروحي وأبو الغناء الخليجي لأجيال من الأصوات الخليجية والعربية .
إجادة الألوان الغنائية المختلفة
تميز بلفقيه السعودي من أصول يمنية حضرموتية ، المغني والملحن والشاعر والأديب ،.بثقافة عالية انعكست وعيًّا فنيًّا واسعًا في تجربته الطويلة، كما تميز بعذوبة صوته، وتعدد طبقاته بين القرار والجواب، وبالقدرة على استبطان النص وجدانيًّا بأبعاده المختلفة فرحًا وحزنًا، وبقدرته على أداء الألوان الغنائية المختلفة، فإلى جانب إجادته للأغنيتين الحضرمية والعدنية، أجاد الغناء الصنعاني الذي بدأ يمارسه منذ بداياته الفنية، وقدم أكثر من 10 أغان منها: (قال المعنى لمه)، و(مسكين يا ناس)، و(يا ليل هل أشكو)، بالإضافة إلى القصائد الفصيحة لابي القاسم الشابي وجده أبوبكر بن شهاب.
مغني وملحن و شاعر
وقد حقق أبوبكر سالم نجاحا كبيرا على مستوى الجزيرة العربية والوطن العربي منذ بداية مشواره الفني وغنى له وليد توفيق وراغب علامة بالإضافة إلى فناني الخليج العربي مثل محمد عبده وطلال مداح وعبد الله الرويشد بالإضافة إلى كتابة وتلحين أغاني لكبار فناني الوطن العربي مثل الراحلة ورده الجزائرية، كما لديه ديوان شعر يحتوي على القصائد التي كتبها طوال مشواره الفني والأدبي منذ دخوله عالم الفن والأدب عام 1956.، وظل متواصلا مع جمهوره سنويا عبر الحفلات الغنائية التي يحييها في مهرجانات الأغنية العربية المتعددة حتى العام 2010، وقد نقل أبوبكر تجربته الشخصية وترجمها إلى جمهوره من خلال أغانيه التي تحمل الطابع الاخلاقي والاجتماعي بحكم نشأته في بيئة دينية محافظة وأسرة مثقفة فجده أبوبكر بن شهاب هو من كبار شعراء مدينة تريم والذي تشرب الشعر والثقافة منه.
البداية .. منشد ومعلم
ولد أبوبكر بن سالم بن زين بن حسن بلفقيه في 17 مارس 1939 وعاش طفولته يتيما حيث توفي والده وهو ابن 8 أشهر واحتضنه جده الشيخ زين بن حسن، تلقى تعليمه على يد أكبر علماء حضرموت ، وقد اظهر تفوقا ملحوظا في علوم اللغة العربية والشعر وظهرت مواهبه الفنية منذ صباه، تميز بجمال صوته في فترة مبكرة من عمره، فكان يؤذن ويردد تكبيرات العيدين في بعض مساجد مدينة تريم، وكان يشارك بعض أعمامه في إنشاد بعض الموشحات الدينية في عدد من الحفلات،
واشتهر كمنشد للأناشيد والموشحات الدينية بالإضافة إلى أنه كان مُولعاً بالأدب والشعر إلى جانب حبه الكبير للغناء الذي مارسه بشكل رسمي بعد الإنشاد، وفي العشرينات من عمره عمل أبوبكر في التعليم لمدة 3 سنوات ، حيث أنه خريج معهد إعداد المعلمين وأظهر تفوقاً في الأدب والشعر وكان أحد المعلمين المتميزين في مادة النحو كما أن مواهبه الشعرية بدأت منذ بلوغه الـ 17 من عمره ؛ حينما كتب أول أغنيه من كلماته “يا ورد محلا جمالك بين الورود” التي غناها بعد ذلك الفنان الكبير طلال مداح.
الانطلاق من عدن
غادر أبوبكر “تريم “في مقتبل شبابه ، واستقر في مدينة عدن في الخمسينات وهناك تعرف بالكثير من شعرائها وفنانيها وإعلاميين من أمثال الشاعر لطفي جعفر أمان والفنان أحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبد الله ومحمد مرشد ناجي والشاعر والإعلامي فضل النقيب وغيرهم، وقدم أبوبكر نفسه على الصعيد الفني من خلال الحفلات الموسمية التي كانت تُقام في عدن، وحقق نجاحا باهرا ليفتح له الحظ أبوابه وتعرض حفلاته مسجلة ومباشرة في تلفزيون عدن، ثم الإذاعة التي بشرت بقدوم موهبة غير عادية.
اللقاء الأول المباشر بالجمهور
كان الفنان محمد مرشد ناجي الملقب بـ”المرشدي” أول من دعا أبو بكرسالم للغناء أمام الجمهور، في إحدى مناسبات الزواج بعدن، وعندما تصدى ناجي قائلاً للجمهور:” أقدم لكم لأول مرة الفنان الشاب أبو بكر بلفقيه” لم يكن ليضع رهانه على فنان عابر، باعتبار أنه أحد رواد الأغنية ، ومن ساهموا في إيصال الأغنية العدنية إلى خارج الحدود، وأبو بكر ما إن قبض بيديه على “الميكرفون” حتى شعر بأنه يمسك بأول فرصة حقيقية أتيحت له للغناء أمام الجمهور، بعد أن حاول بعض الفنانين الدفع به لعمل إيقاعي، دون علم أو دراية منهم أن هذا الشاب يملك موهبة خالدة،
ويخبئ بين أضلعه النحيلة نوتة موسيقية ستعيد تشكيل وجدان الناس بعد سنوات قريبة، وغنى أبو بكر سالم تلك الليلة أغنيته اليتيمة التي كتبها ولحنها قبل أن يبلغ العشرينات “يا ورد محلى جمالك”، فصفق له الجمهور، ولم يستطع النوم تلك الليلة إلا وقد شرع في كتابة أغان منها :” (خاف ربك)، (يا حبيبي يا خفيف الروح) و(سهران ليلي طويل)، وتلقى نصائح من بعض المقربين منه بتعلم العزف على آلة العود لاسيما أنه يجيد الموروث والموشحات ويحفظ القصائد الفصحى ويكتب الشعر ويلحنه، فاستمع لتلك النصيحة، وطبقها جيداً.
بيروت نقطة تحول
في عام 1958 غادر إلى بيروت ، وكانت اقامته شبه مستقرة هناك في حي الروشه ، وسجلت معظم أعماله الفنية في تلك الحقبة هناك وكانت هذه نقطة التحول في حياته التي أشعلت بداخله جذوة الحنين الأبدي إلى مسقط رأسه وفجرت داخله مكامن الإبداع وصقلت شخصيته كفنان، وفي تلك المرحلة أطلق روائعه الغنائية مثل: “24 ساعة” و”متى أنا أشوفك”، والتي كانت من لحنه وكلماته، و قال أبو بكر سالم عن رحلته إلى بيروت:” كان يراودني الحلم بأن أغني الأغنية الحضرمية وخلفي “الأوركسترا” وأن أخرجها من النطاق الضيق الغناء بالعود، والإيقاع فقط، ونجحت في ذلك بين عامي 1960 – 1961″.
الاستقرار في الرياض
وفي مرحلة بيروت قدم أغاني مثل أغنية “من نظرتك يا زين” مع نجاح سلام وأغانٍ مع هيام يونس، وتعلق بلبنان إنسانياً وفنياً، وظل يتردد بين بيروت وعدن مروراً بجدة إلى أن قرر أن يضع حداً للرحيل والترحال وأن يبدأ مرحلة فنية جديدة في جدة، حصل بعدها بفترة على الجنسية السعودية، وقدم عدداً من الأغاني الوطنية من أشهرها “يا بلادي واصلي”، “يا مسافر على الطايف” تم تسجيلها في بيروت، وبعدها استقر في العاصمة الرياض، وشكّل الفنان الراحل أبوبكر سالم مدرسة فنية متكاملة ما بين اللحن والكلمة والأداء، وكثيرة هي الأغاني الطربية التي وصلت إلى العالم العربي وأداها الفنانون في محافل مختلفة، بعدما خرجت من مصنع الفنان الكبير الراحل.
هويته الغنائية.. السهل الممتنع
تميز سالم طوال مشواره بحفاظه على هويته الغنائية وقربه من الجمهور دون أن تأخذه الموجات الفنية المتقلبة كغيره من فناني جيله، لذا يعد من القلة في العالم العربي التي لم تُخضع أصواتها للتجارب تحت أي ظرف من الظروف.
وسُئل الفنان الكبير ذات يوم عن ذلك ، وتحديداً أثناء ظهوره عام 1997 في برنامج (خليك بالبيت) على قناة (المستقبل) اللبنانية : لماذا يندر قبوله لأي لحن يقدم له من الفنانين الآخرين، فأجاب: “ليس ذلك اقتصارا على أن أغني ما ألحنه فقط، بالعكس هناك فطاحل من الملحنين ولهم معرفة فنية، ولي أصدقاء كثر، ولكن أحب الالتقاء والانصهار في اللحن والكلمة وتوظيف الأغنية”، مبيناً أن “بعض الملحنين يغيب عن باله المعنى، ويصب ذهنه كله في حكاية الاستعراض الموسيقي”، على حد وصفه، وتابع: “شعبنا يستسيغ السهل الممتنع، فلقيت إنه إذا كان هناك كلاسيكية وتمطيط لحني طويل يهرب منه المتلقي، لذا كان يفضل الحفاظ على جمله البسيطة، ويرى أن المتلقين يحبون هذه الألوان واصفاً الأمر بأنه ليس من باب الغرور أو التمنّع.
أغنية بقرار وزاري
في عام 1400هجرية، طلب وزير الإعلام وقتها الدكتور محمد عبده يماني إعداد أغنية وطنية تُغنى أمام قادة العالم في عهد الملك خالد رحمه الله، فما كان من أبوبكر سالم إلا الاستجابة، وخلال 28 ساعة فقط خرجت رائعة من روائع أغانيه، وكانت (يا بلادي واصلي)، وهي الأكثر جمالاً وخلوداً وتأثيراً، واتسمت الأغنية بمستويات عُليا من التطريب النغمي المعروف عن الفنان الراحل الذي قدم أغان وطنية فائقة الروعة، وتعتبر الأغنية من أهم النصوص الشعرية التي كتبها ولحنها.
تكريمات ورحيل
حاز الراحل الكبير أبو بكر سالم على العديد من الأوسمة والتكريمات الفنية، منها “الكاسيت الذهبي” من إحدى شركات التوزيع الألمانية، وجائزة منظمة “اليونسكو”، كـ “ثاني أفضل صوت في العالم” ، والدكتوراة الفخرية من جامعة حضر موت، كما كُرم في عدد من الدول الخليجية، منها الإمارات العربية المتحدة، حيث أهداه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سيفا من الذهب الخالص، ورحل عن عالمنا يوم الأحد 22 ربيع الأول 1439هـ – 10 ديسمبر 2017م ، بعد معاناة مع المرض ، ومسيرة فنية حافلة بالإنجازات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *