مقالات الكتاب

العجوز الأميركية و شهر العسل

السفر متعة الحياة وراحة للنفس ، به يزداد الانسان ثقافة ، وتتسع مداركه ، وفيه جلاء للعين والعقل ، وقد أدرك من سبقنا فوائد السفر فرحم الله الامام الشافعي حين يتمثل قائلا  تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى …وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـد تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ …وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ ولا يخلو السفر من مواقف يتعلم منها الانسان دروسا في حياته حيث لا تزال مشاعر الدهشة تنتابني من وقت إلى أخر وأنا أتذكر تلك السيدة الاميركية ذات الثمانية والستين عاماً بالرغم أن الامر قد مضى عليه أكثر من ثمان سنوات ولكن ذاكرتي مازالت تنتابها تلك اللحظات التي اكتسبت من خلالها من الدروس والعبر ما لا يحصى .
كان ذلك في اواخر شهر نوفمبر من عام 2006 م وقد التحقت حينها بدورة تدريبية تعنى بإدارة المؤسسات الصحافية في الولايات المتحدة الاميركية حين ركبت القطار المتجه من العاصمة واشنطن إلى نيويورك في تلك اللحظات جلست بجانبي سيدة أميركية شقراء ترتدي اللون الزهري الفاتح الذي يضفى التفاؤل ويؤذن بالربيع والمطر، وبادرتني بالتحية قائلة (هاي) فأبتسمت لها واتخذت مجلسا وسرعان ماانشغلت بقراءة قصة اخذتها من حقيبتها،
وكنت حينها ارتشف فنجان قهوة وأتصفح بيدي الاخرى صحيفة نيويورك تايمز، فسألتني السيدة بكل لطف قائلة” على ما يبدو بأنك لستِ من هنا ، من اين أنتِ .كم يعجبني هندامك” فقلت لها ” أنا من بلاد بعيدة جداً من الشرق الاوسط وتحديداً من السعودية” فأندهشت وقالت لم ارى سعوديات من قبل ولكنني اعرف أن المرأة لديكم ليست مثل الرجل ومفضل عنها، فقلت لها ” ليس الامر كما تظنين قاطعتني قائلة :”هل في بلادكم المرأة تتزوج بعد أن يموت زوجها”، “فسكت لبرهة وقلت بعض الاحيان ولكن لدينا بعض العادات والتقاليد المختلفة عنكم “فقالت اريد أن اقول لك قصتي لتروينها لكل النساء في بلادك انا امرأة ابلغ من العمر ثمان وستين عاماً توفى زوجي بمرض السرطان منذ 11 عاماً ولي اربعة من الاولاد وأعمل مديرة مدرسة
تزوج ثلاثة من ابنائي وظل معي اصغرهم وحينما تزوج مؤخرا واستقل بحياته قررت أن اتقاعد وأن اجوب العالم لوحدي وبالفعل حصلت على التقاعد وعندما بدأت ارتب للسفر خرجت من منزلي للتبضع وأثناء مروري اصطدمت عربتي مع عربة أخرى وأعتذرت لصاحب العربة وهو رجل في مثل سني ونظر الي وقال بكل دهشة”قائلا هل تقابلنا من قبل ” فنظرت اليه مرة أخرى وقلت له ربما ولكن لا اتذكر ” فقال وقد بات متأكداً ” بل اعرفك جيداً ولكن نسيت اسمك فهل تذكريني به ” فقلت “اسمي كارولين سميث ” فقال نعم
فهل كنت تعيشين أنت وزوجك في اوهايوا قبل ثلاثون عاما وكان زوجك يعمل في احد المصانع ” فقلت نعم هو ذلك ” فقال انا ستيف جاركم حينها لمدة خمس سنوات وكان ابنائنا يلعبون دوما مع بعضهم البعض وقد رحلتم أنتم الى العاصمة وأنا بقيت فيها عشر سنوات أخرى “حينها فتذكرت فقلت باندهاش عجيب ياالهي نعم نعم اتذكر تلك الايام جيدا وكيف حال زوجتك لويزا ، فقال لي ” للاسف قد ماتت قبل 7 سنوات بالمرض العضال” وسألني ايضاً عن زوجي فذكرت له باني أرملة منذ احدى عشر عاماً فقال لي “ما رايك أن نتناول الليلة العشاء سوياً”، فلم أمانع .
تقول “استمر لقائنا يتكرر طوال عدة اسابيع نبحر معا في ذكريات العمر سنوات طويلة نسردها سوياً كيف كانت احداثها من افراح وأحزان وماذا بقي لنا في السنوات الاخيرة وكم هي الوحدة مؤلمة قاتلة ومخيفة .
وأثناء حديثه المفعم بالمودة فاجأني وعيناه تلمعان” بقوله هل توافقين بأن نموت سوياً ” فقلت لم افهم ما تقصد ،فقال لي ” أريد أن اتزوجك لكي نقضي سوياً ما بقى لنا من العمر، فهل تقبلين حبي وصداقتي وشخصي لتعيشي معي” في تلك اللحظة لم أتخيل ان تلك الكلمات جعلتني ارتجف خجلاً وكأنني فتاة الاربع عشر ربيعاً وتلعثمت وقلت له مبتسمة” ما رأيك أن نستشير ابنائنا وندعوهم على العشاء ونقول لهم هذا الخبر، فوافق،
وبالفعل انهال الجميع علي بالتبريكات من ابنائنا بعد موافقتهم وتزوجنا وها أنا أعيش الان شهر العسل ومسافرة إلى نيويورك لأحضر ولادة ابنتي ولن اغيب عنه طويلا، فكم أنا سعيدة وأشعر بأنني عصفورة احلق في سماء الحياة مرة اخرى.
قالت وهي تشير الى الكتاب الذي كان بين يديها “اريد أن اهديك هذا الكتاب انظري إلى أسمه (هدية من البحر”Gift from the Sea” وهو عبارة عن تاملات حول الشباب والعمر؛ الحب والزواج؛ السلام والعزلة والرضا من خلال عطلة قصيرة على شاطىء البحر.
وقبل أن تغادر أسرت الي بكلمة وهي تشير إلى قلبها ..قائلة ” مادام هذا القلب ينبض بالحياة فهو جديرً بالسعادة ” حاولوا ان تتخلصوا من كل ألم . فالحياة قصيرة ولا تستحق كل ذلك العناء.ألقت بتلك الكلمات وغابت تلك السيدة عن ناظري وسط أمواج من زحام المسافرين.
                                                                                                                                      منال فيصل الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *