ثقافة

عزيز ضياء الذي غفلت عنه (نوبل)

بقلم– آمال رتيب
عبد العزيز ضياء الدين زاهد مراد ((1914-1997م)، أديب وقانوني ومترجم وإذاعي بارز من طلائع النهضة الأدبية في الحجاز. اشتهر باسم عزيز ضياء وهو الاسم الأدبي الذي اختاره نسبة وتكريماً لزوج والدته الدكتور ضياء كبير صيادلة الجيش التركي في المدينة المنورة أبان العهد العثماني.
عراب البلاد الأول .. وحياته مع الجوع والحب والحرب
ولد في زقاق القفل بمحلة الساعة في المدينة المنورة في 22 يناير 1914، وهو العام الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى. وفقد أباه في سن مبكرة إذ سافر والده إلى روسيا بغرض جمع الأموال لتأسيس الجامعة الإسلامية بينما كان عزيز في الثالثة من عمره ولكنه لم يعد أبداً. والمرجح أنه قتل أثناء تلك الرحلة.
ذاقت أسرته نيران الحرب شأنها شأن الكثير من الأسر المدنية في تلك الفترة خلال حصار جيش الشريف حسين والقبائل العربية للمدينة والتي بدأ في العام 1916. فقد اضطرت أسرته لاحقاً إلى النزوح إلى الشام في الرحلة التاريخية التي عرفت بـ “السفر برلك” وذلك عبر قطار الحجاز أو “البابور” كما كان يسميه أهل المدينة. وقد سجل عزيز ضياء ذكرياته عن تلك الرحلة وفترة النزوح إلى الشام في رائعته ” حياتي مع الجوع والحب والحرب”. انتهت رحلة أسرته إلى الشام نهاية مأساوية إذ فقد خلال فترة الإقامة في الشام خالته، وجده لأمه، وشقيقه الأصغر. وقد عاد برفقة والدته فقط إلى المدينة المنورة عقب نهاية الحرب وخروج الجيش التركي.
درس في كتاتيب المدينة، ثم بالمدرسة الراقية الهاشمية، ثم مدرسة الصحة في مكة المكرمة في 1927، ولكنه هرب منها بعد أن اكتشف أنها مدرسة للتمريض. ودرس لفترة في مدرسة الخديوي إسماعيل بالقاهرة. وتنقل بين الجامعة الأمريكية في بيروت ومعهد التحقيق الجنائي في كلية الحقوق بالجامعة المصرية غير أن ظروف اندلاع الحرب العالمية الثانية اضطرته إلى العودة إلى المملكة. أجاد من اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية.
حياته العملية
تدرج في عدة مناصب حكومية وعسكرية. إذ بدأ كمقيد أوراق في مديرية الصحة العامة في مكة المكرمة ثم في مكتب مدير الأمن العام. ثم انتقل للعمل ككاتب ضبط في شرطة المدينة قبل أن يعود لمكة المكرمة ليتلقى دورة عسكرية قصيرة عين بعدها رئيسا للمنطقة الثالثة بمكة واستمر في عمله بالشرطة لعدة سنوات٬ قبل أن يقرر الالتحاق بمدرسة تحضير البعثات إبان افتتاحها ومن ثم انطلق في رحلته التعليمية الغير مكتملة إلى مصر ولبنان.
عاد إلى العمل في الشرطة لفترة ثم غادر من جديد إلى القاهرة للالتحاق بمعهد التحقيق الجنائي التابع لكلية الحقوق غير أن رحلته لم تكتمل من جديد نظرا لظروفه المادية. عاد إلى المملكة وعين رئيسا لقسم التنفيذ بالشرطة ثم مساعدا لمدير عام وزارة الدفاع ومن ثم مديرا للخطوط الجوية السعودية في عهد أول وزير دفاع الأمير منصور بن عبد العزيز.
غادر المملكة في نهاية الأربعينات الميلادية متوجها إلى مصر ثم الهند حيث عمل في الإذاعة العربية في بومباي برفقة زوجته السيدة أسماء زعزوع والتي عملت هناك أيضا كأول مذيعة سعودية يبث صوتها عبر الأثير من خارج المملكة. عاد إلى المملكة بعد عامين من الإقامة في الهند حيث عين مديرا لمكتب مراقبة الأجانب. ثم أصبح وكيلا للأمن العام للمباحث والجوازات والجنسية.
الصحافة
عمل عزيز ضياء في الصحافة منذ وقت مبكر فكان من أوائل من كتبوا المقال السياسي في صحيفة البلاد (صوت الحجاز سابقاً) أول صحيفة سعودية. وشارك في تأسيس صحيفة عكاظ وتولى رئاسة تحريرها لمدة عشرة أشهر. وتولى رئاسة تحرير صحيفة المدينة في العام 1964 قبل أن تتم تنحيته بعد 40 يوما فقط على خلفية نشره لوثائق تكشف بعض المخالفات المالية بوزارة البترول.
تخصص في المقال السياسي حيث كتب للإذاعة السعودية كمعلق سياسي لحوالي 15 سنة. شارك ككاتب يومي وأسبوعي وخلال فترات مختلفة في حياته في صحف عكاظ، المدينة، الرياض، البلاد، الندوة ومجلات اليمامة والحرس الوطني والجيل. وقد كتب بالإضافة إلى المجال السياسي في المجالات الأدبية والاجتماعية. وتم إعادة نشر الكثير من هذه المقالات في سلسلة الأعمال الكاملة للأستاذ عزيز ضياء والتي تكفل بطباعتها وإصدارها الأستاذ عبد المقصود خوجة عبر مؤسسة ومنتدى الاثنينية الثقافي.
أدبه ومؤلفاته
عزيز ضياء أديب كما وصفه البعض بأنه الأديب السعودي الذي غفلت عنه جائزة نوبل العالمية للآداب، اشتهرت كتاباته بالرومانسية والشاعرية، وتأثر بالتيارات المهجرية والتجديدية. مما يميز أدب عزيز ضياء النبرة الأخلاقية البارزة. كما يعتبر عزيز ضياء من رواد القصيدة النثرية الحداثية بالحجاز. ساهم في تقديم العديد من البرامج والمسلسلات الدرامية المتنوعة في إذاعة جدة.
كان من أوائل من عملوا بترجمة الأعمال الأدبية الإنجليزية إلى العربية في المملكة حيث استفاد من فترة دراسته بالجامعة الأمريكية ببيروت فترجم ما يزيد عن 30 عملا روائيا ومسرحيا عالميا لنخبة من الأدباء أمثال طاغور، أوسكار وايلد، سومرست موم، تولستوي، جورج أورويل وبرنارد شو. وقد تم طبع ونشر بعض هذه الأعمال عن طريق مؤسسة تهامة فيما تم نشر بعضها الآخر عبر صفحات الصحف والمجلات.
كان عضواً في المجلس الأعلى للثقافة والفنون والأدب السعودي عند تأسيسه منتصف السبعينيات وكان ممن اقترحوا فكرة إنشاء الأندية الأدبية، وهو عضو مؤسس لنادي جدة الأدبي إذ ساهم مع الأستاذ محمد حسن عواد في تأسيسه العام 1975، وشارك في انتخابات أول مجلس إدارة للنادي حيث انتخب لمنصب نائب رئيس النادي. وشارك في إلقاء الكثير من المحاضرات الثقافية والإعلامية والاجتماعية في النادي وخارج النادي ابنه ضياء تشكيلي ومثال شهير وهو صاحب نصب المصحف الكبير على مدخل مكة المكرمة، وابنته دلال كبير مذيعين بإذاعة جدة.
من أهم مؤلفاته ومترجماته: حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف٬ ومن القصص العالمية التي ترجمها: عهد الصبا في البادية٬ قصص من (سومرست موم) ٬ قصص من تاغور٬ رواية عناقيد الحقد التي نشرت على أجزاء في مجلة اقرأ. وثلاثيته الرائعة “حياتي مع الجوع والحب والحرب” سيرة ذاتية 1995م٬ وتمت طباعتها بمطابع مؤسسة البلاد.
حياتي مع الجوع والحب والحرب
في مقدمة سيرته الذاتية (حياتي مع الجوع والحب والحرب) يصف عزيز ضياء حياته تلك بأنها (قصة التفاهة) ٬ تأهب لتقرأ فصولاً من حياة أعجب ما فيها أنها تافهة٬ وأجمل ما فيها أنها قصة التفاهة، يحياها ألوف من أمثالي الصغار التافهين… الذين لم يتح لهم أن يلمعوا في آفاق العالم الكبير ولم يجدوا مداخلهم إلى التاريخ… ليس في حياتهم بطولة أو مجد.. أو مغامرات أو مفاجآت.. أو إثارة من أي نوع… وإنما فيها حياة الألوف.. والملايين من الصغار التافهين) ص 15.
وعلى مدى ثلاثة مجلدات٬ صاغ (عزيز ضياء) سيرته منذ ولادته وإرهاصاتها الأولى٬ كما قصتها عليه والدته (فاطمة بنت الشيخ أحمد صفا) من أول صباح في حياته إلى أواخر حياته – رحمه الله -.
وفي أول ثلاث صفحات يخط المؤلف رسالة إلى ابنه (ضياء) وفيها يفلسف معنى هذه السيرة٬ ودوافع كتابتها٬ وبواعث قناعته بكتابتها في هذه السن٬ وبداياته الثقافية.. ومكونات قراءاته الأولى٬ في صياغة تقدم (عزيز ضياء) بلا ادعاء.. أو تواضع باهت.. بقدر ما كانت صادقة وهي تومئ إلى شيء من التاريخ الثقافي في الحجاز (كنت شابا.. وكانت (صوت الحجاز)، يومها تصدر أعدادها الأولى من سنتها الأولى٬ وقد نشرت لي هذه القصة القصيرة، ولم يبخل محررها يومئذ أن ينشرها في إطار أرضى غروري، وجعلني أدخل الجريدة برأس لا ترى ما يحملها على الانحناء أو الخشوع أو الإحساس بصغر السن إن لم يكن بضآلة القدر٬ ووجدت نفسي أمام شخصيات كنت أسمع عنها فأرسم لكلٍّ، صورة في خيالي أستمد ألوانها وملامحها من هؤلاء الذين أتيح لي أن أقرأ عنهم، أولهم من أدباء فرنسا وألمانيا) ص12.
ويستمر الأب (عزيز) في رسم صورة واقعية لمكوناته الثقافية٬ دون أن ينحاز إلى تلوينها بادعاء نضالي للأب أمام الابن٬ بقدر ما حملها شفافية صادقة٬ يستجمع شتاتها من (جوعه وحبه وحربه).. ويختزل فيها مضامين السيرة التي سينسج تفاصيلها لاحقا معتمدا على ذاكرة تحتشد فيها المواقف والوقائع المرتهنة لمكانها وزمنها٬ التي شيدت (ذات) عزيز ضياء الأب والمثقف٬ بوعي أيقن أن هذه السيرة فيها من التجربة والخبرة بالحياة وتقلباتها٬ بقدر ما فيها من اعتبارات توثيقية لجزء من تاريخنا الثقافي٬ بمعناه الشمولي الذي يجعل من التجربة الحياتية مكونا ثقافيا٬ تتأتى محركاته من النسيج الاجتماعي٬ وما يحفل به من طاقات!
فالسيرة التي تتوزعها محاور ( الجوع والحب والحرب) إنما هي ذلك المنجز الذي صاغ رؤية (عزيز ضياء) واصطبغ بألوانها وأصبح معبرا عن تجلياتها:
الجوع: الذي جعل «وجبة الخبز الأسود أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم» ص14
والحب: عندما «اسودت الدنيا وأظلمت في عيني يوم سافرت الحبيبة.. وكيف مشيت وراء القافلة التي حملتها معولاً، ثم وقفت مشدوهاً محترق الجوانح حين غابت القافلة أخيراً عن الأنظار» ص14. والحرب: «كلما أطلقت قلعة سلع في المدينة مدافعها في اتجاه العوالي وقباء، وعواصف الذعر والهلع كلما قيل إنهم يهجمون وأنهم يتقدمون وأنهم قد يدخلون» ص15.
ومن هذه المداخل التي جاءت في سياق رسالة المؤلف إلى ولده (ضياء)٬ تتداخل سيرة عزيز ضياء الذاتية.. التي تفتقت تفاصيلها عند بدء الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تداعيات٬ ولم تكن علاقة ضياء بأمه علاقة تقليدية٬ بل علاقة استثنائية٬ يمنحها الحوار الذي ينقله عنها٬ وعن مربيته (منكشة) والحوار بينه وبينها٬ بعفوية اللهجة الحجازية المعتقة وحميمية دلالاتها٬ وأبعادها المنحازة إلى تكوين الهوية المجتمعية للحجاز٬ التي كانت معطى من معطيات بيئة مكانية في مجتمعات الحجاز والمدينة المنورة على وجه الخصوص٬ وهي بذلك تكشف أنظمة المجتمع٬ ٬ ومزاجه الفكري٬ تتداخل بتفاصيل يكتبها عزيز ضياء بصياغة بيانية راقية. وعبر ناظم زمني تكون (الحرب) مفصلاً رئيسياً فيه٬ ففيها فقد (عزيز ضياء) جده ويصف موته بمشهد ينضح بأشد الحالات الإنسانية ألماً وجرحاً وبؤساً٬ وكان هذا الموقف مع (الموت) في سياق مواقف كثيرة حفلت بها السيرة في الوقوف أمام رهبة الموت٬ ومشهد الموتى يتساقطون في الشوارع والطرقات.
لقد أدرك (عزيز ضياء) جدوى أن ينقل ما استبصره من مشاهد وحوارات٬ فينقلها بحرارة وقعها٬ مثلما تبدت بذات اللهجة التي كونتها٬ والضمير الذي وعاها وعبر عنها. ولقد حفلت ذاكرته بذلك الرصيد من الاحتشاد٬ الذي أوتي قدرة نقله عبر السيرة٬ ينتقل من فصل إلى آخر٬ بعناوين جانبية تلخص مفهوم السرد الذاتي٬ ثم يعيد نشر تفاصيلها.. ف(خديجة) خالته.. يعيد تكوين رسم تشكيلي لها. وكانت فجيعته بموتها.. تعادل فجيعته بموت جده لأمه.. ليعطي دلالة الموت.. عنواناً لهذه السيرة ومتناغماً مع تفاصيلها.
وفي سنوات الجوع والحرب٬ يترك لفضاء البصر٬ مجالاً لإدراك مضامين السيرة٬ فقد تلونت صفحات السيرة٬ بعدة لوحات تشكيلية٬ مصاحبة للحدث٬ ومحاكية لمضمونه٬ لا يلبث أن يكتب شرحاً لتلك اللوحات في تناغم مع النقل الحدثي الذي يستدره من الذاكرة.
وتتداخل في سيرة عزيز ضياء. رأيه الثقافي٬ ومجال اهتماماته الأدبية وتكوينات مرجعيته المعرفية٬ حيث تتقاطع في سيرته٬ العديد من المواقف التي شكلت بدورها٬ سيرة ثقافية٬ حملها رؤيته في قراءاته٬ ومتابعاته٬ وما أنجزه من أعمال أدبية مستقلة.
على غلاف السيرة يرسم (ضياء عزيز ضياء) صورة وجه أبيه.. ثلاثة وجوه.. تتداخل تفاصيلها٬ وتنطق تضاعيفها بهمة جسورة وأفق بعيد٬ تمنحه المسافة أمداً للانطلاق والعبور٬ (ثلاثة وجوه) في يمينها قبضة يد٬ تشكل في مجموعها تفاصيل الوجه٬ وبعداً من أبعاد هذه السيرة تكاد تحترق ملامح الوجه٬ لتشي تعبيراتها في جزئيات تترابط عبر أطراف غير معتمة وغير واضحة٬ وتكوينات٬ لا تعترض الاكتمال٬ تنم عن جرأة وتحدي وجه عزيز ضياء الذي غاب٬ ووجوده الذي لا يغيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *