مضى الثلث الأول من شهر رمضان في طرفة عين، وكأننا نحلم حلمًا جميلًا لا نريد الاستيقاظ منه، فما أجملك يا رمضان، تأتي بالخير وتفتح بابك لتسعد به طُلابك؛ فأقوالنا وأفعالنا وكل أعمالنا مختلفة في هذا الشهر، وكل عباداتنا من صلاة وتسبيح وقيام مضاعفة الأجر والثواب، جميعنا مقصرون نبحث عن رحمة ومغفرة وعتق من النار؛ وشهر الغفران يتيح لنا الفرصة لوقفة مع النفس، وتطهيرها من الشوائب والذنوب.
شهر رمضان فرصة عظمى لتجديد الحياة والخضوع والانكسار بين يدي الرحمن، وطرد كل ما في النفس من ألم وكره وحقد، فعلينا مع بلوغ هذا الشهر العظيم بالإكثار من حمد الله تعالى على نعمه؛ فكم من طالبِ بلوغه لم يبلغه.
ومن أجمل ما قرأت حول هذه المعاني، أبيات للدكتور عبد الرحمن الأهدل، يقول فيها:
تأتي الذكريات تباعًا وبدون أي مقدمات حين نذكر شهر رمضان، حاملًا معه رائحة العود والمسك وزمزم، ومنذ قدومي إلى هذه الدنيا حفظت الكثير من الموروثات، والتي كنت أراها بعيني في وقت لا أجيد فيه الكلام أو التعبير عن الرأي، بل كنت خير منصت ومراقب لما يدور حولي، وأحاول تقليد ما أشاهده مع قريباتي لاحقًا.
كان لانتظار مدفع الإفطار وقعًا شديدًا على النفس، فالجميع يسبح في جو روحاني جميل، لا أسمع فيه سوى دوي المكيف الصحراوي، وكنت أذهب بهدوء أراقب رأس الجبل من نافذة منزل جدي في جرول بمكة المكرمة. وفور انطلاق المدفع كنا نجلس جميعًا على سفرة الإفطار، ولا يمكننا الجلوس قبل كبير العائلة، ولا يمكننا ترك طاولة الطعام قبل أن يتركها؛ كانت معان جميلة للاحترام والتقدير قلما نجدها اليوم . لم نكن نشرب المياه المعدنية التي يتنافس الناس اليوم عليها بمسميات شركاتها، بل كانت من صنع رب العالمين “ماء زمزم”، الذي كنّا نشربه بعد تبخير الكؤوس بالمستكة وما أجمله من مذاق؛ تعلمها من المكيين “منا” شعوب الأرض.
كنا نصلي المغرب ونكمل إفطارنا، ثم نتجه إلى رؤية الشيخ علي طنطاوي رحمه الله، الذي كان يقول كلامًا لا أفهمه، واحترامي وتوقيري للكبير كان يمنعني أن اسأل ماذا يقول؛ لأنه كان علي الهدوء حتى لا أزعج جدي.
كانت هناك أجواء عائلية مترابطة متواصلة؛ بيوتنا لم تكن تختفي من الناس.. من الأهل ..من الجيران.. من الأصدقاء، واعتقد أن الوقت كان أطول حينها من هذه الأيام، رغم أن الساعات والشهور والأيام كما هي، ولكني اعتقد أننا عشنا رمضان في تلك الحقبة أطول من رمضان حديثًا، فهل التكنولوجيا هي السبب، والرسائل النصية استبدلت تلك المشاعر الحية بأخرى، في زمن افتراضي لم اكتشفه حتى الآن.
دعونا نستبق الخيرات فيما تبقى من ثلثي شهر رمضان، وأن نتجه بكل جوارحنا إلى رب العالمين، بأن يجعلنا ممن دخل عليه رمضان وغفر له :