ثمة العديد من الألحان وفنون صناعة الموسيقى بها الكثير من الإبداع والأصالة، ورغم مضي الزمن تبقى خالدة في وجدان الجماهير، وتظل مثل الجواهر قد يراكم الزمن عليها بعض الغبار، لكن معدنها الأصيل يزداد تألقًا وقيمة، وألحان الفنان المبدع محمد شفيق من هذه النوعية الثمينة من الأعمال الفنية، واليوم باستعراضنا للمحات من سيرته ومشواره الفني نزيل غبار الزمن عن أعماله التي أبدعها في فترة من فترات زمن الفن الجميل.
ملحن الكبار
ولد الفنان محمد شفيق عام 1367هـ، وهو موسيقار وملحن سعودي، يعتبر من أهم رموز الأغنية السعودية ويحمل سجله الفني ألحان العديد من الأعمال الغنائية الشهيرة منها أوبريت “مولد أمة” و”هلا بالطيب الغالي” و”الله الله يا منتخبنا”، كما لحن مقدمة مسلسل “أصابع الزمن” للفنان محمد حمزة. وتغنى بألحانه كبار مطربي الخليج يتقدمهم طلال مداح ومحمد عبده وعبد الكريم عبد القادر وإبراهيم حبيب، وغيرهم من كبار الفنانين العرب
البداية كـ”عازف”
بدأ شفيق حياته الفنية كعازف في فرقة الإذاعة والتلفزيون في جدّة (السعودية)، ودرس في معهد الموسيقى العربية في القاهرة، وحاز
على “بكالوريوس” في الآلات الوترية قبل أن يصبح واحدًا من أهم وأشهر الملحنين السعوديين، حيث لُقّب بـ “ملحن الأغنية الوطنية الأول”، كما تولى رئاسة القسم الموسيقي في فرقة الإذاعة والتلفزيون لسنوات طويلة.
الأصالة سمة رئيسية
الفنان القدير محمد شفيق طاف بين أروقة الدراسة الموسيقية بالقاهرة وكأنه النحلة التي تمتص العطاء الفني من هذا وذاك، حتى تراكمت معارفه الفنية، وتجلت شخصيته الموسيقية المبدعة، حيث يشعر المستمع في أعمال هذا الملحن القدير تصويرًا رائعًا للكلمة، وحس مرهف بصياغتها في قالب موسيقي متزن، يحافظ على نكهتها المحلية دون مبالغة أو ابتذال، ويمكن القول أن الأصالة سمة رئيسية في أعماله، لازمته طوال مسيرته الفنية، ولفتت الأنظار إلى موهبته التلحينية التي أصقلها بالدراسة الأكاديمية.
“يا منتخبنا”
العزف على “الكمان” والتلحين؛ كانا شغف الفنان محمد شفيق، عادة يلازمه الكمان يعزف عليه بشكل متواصل أشجى النغمات، إلا أن موهبته وإمكانياته الموسيقية كانت أكبر من العزف، تتوارد على مخيلته الجمل الموسيقية ويظل يرددها ويجودها، حتى يصادف كلمات يروق له تلحينها، فتنساب أجمل المقاطع اللحنية التي سبق وترنم بها في سلاسة وعذوبة، وكأنها ماء نهر رقراق، ولعل لحنه ( يا منتخبنا) للفنان طلال سلامة خير مثال ودليل على ذلك؛ حيث أكد مقدرة شفيق الإبداعية الفذة وعطائه الفني اللامحدود، ويعد اللحن من أفضل الأعمال التي تم إعدادها للمنتخب الوطني وظلت حاضرة في وجدان جماهير الأخضر، كما جعل اللحن الفنان طلال سلامة فنانًا لامعًا.
“مولد أمة”
الفنان الحقيقي في حالة معاناة دائمة للوصول لأعلى درجات الإحساس والصدق؛ وهكذا كان الفنان محمد شفيق في حالة بحث مستمر عن جمل موسيقية تجعل الأذن تتعاطف مع لحنه ولا تمل سماعه، وأوبريت ” مولد أمة” كان من هذه النوعية من الألحان المبدعة، غناه الفنانان محمد عبده وطلال مداح في المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية، فأبدعا فيه كعادتهما، بفضل لحن محمد شفيق وكلمات الشاعر الأمير سعود بن عبد الله، وظل الأوبريت خالدًا في أذهان الجمهور.
ثنائيات مع “مداح وعبده”
كون الموسيقار محمد شفيق مع طلال مداح رحمهما الله ثنائيًا فنيًا رائعًا وقدمًا معًا العديد من الأعمال الغنائية البديعة، بدءًا من أوبريت ” مولد أمة”، وفي العام الذي تلاه أوبريت ” وقفة حق”، والكثير من الأغاني العاطفية، من أشهرها أغنية” يا شوق طير بي وروح” من كلمات ثريا قابل، وهو اللحن الذي أشاد به طلال مداح كثيرًا، وتتالت بعد ذلك العديد من الأغنيات التي لحنها شفيق لطلال مداح منها ” فاتر اللحظ” من كلمات بدر بن عبد المحسن وغيرها من الأغنيات.
كما قدم محمد شفيق ثنائي آخر مع فنان العرب محمد عبده، حيث أبدعا الكثير من الأعمال الشهيرة، كان من أبرزها ” الساعات الحلوة” من كلمات محمد طلعت في عام 1969، وأغنية ” الله
يمسيك بالخير قوللي وش علومك”، والتي عرفت بعد ذلك بـ “تسلم لي” .
و”فنانين عرب”
إلى جانب نجوم الأغنية في المملكة العربية السعودية، شدا كثير من الفنانين العرب الكبار بألحان محمد شفيق، منهم المطرب البحريني المعروف إبراهيم حبيب الذي شدا له بنحو 30 أغنية دينية من كلمات محمد السيد، وأغنيته العاطفية الشهيرة ” تخبي في عيوني عن عيون الناس” من كلمات الأمير خالد بن فيصل بن تركي، كما غنى له نجم الكويت والخليج عبدالكريم عبدالقادر الكثير من الأغنيات، وأيضًا الفنان العراقي كاظم الساهر والفنانة الراحلة رباب، واللبنانية سميرة توفيق، ومن مصر مهده الفني غنت له الفنانة سوزان عطية ونادية مصطفى وحسن الأسمر وسميره سعيد وغيرهم من ألمع النجوم الفنانين والفنانات.
الأغنية “وجه السعد”
“الله الله يا منتخبنا.. إن شاء الله تحقق أملنا ” كلمات مازالت محفورة في أذهان السعوديين، يتذكرون بها فوز المنتخب السعودي، انطلقت الأغنية تزامنًا مع كأس آسيا في سنغافورة عام 1984، وكانت الأغنية “وجه السعد” على كل من ساهم في صناعتها؛ فكانت لطلال سلامة أول أغنية وضعته على طريق الشهرة، وكان الملحن العبقري محمد شفيق حينها يعمل قياديًا في فرقة الإذاعة والتلفزيون، وقد تلقى تكليفًا من الأمير الراحل فيصل بن فهد بإنتاج أغنية خاصة للمنتخب، وشارك شفيق مع الكاتب محمد صالح نوار في صياغة لحن وكلمات الأغنية، دون أن يتوقع الاثنان النجاح الذي ستحققه فيما بعد. كانا يعتقدان أنها أغنية خاصة
ستموت مثل غيرها في حالة إخفاق المنتخب. لكنهما -مع ذلك- واصلا العمل على الأغنية بروح الحب والانتماء، وخلال انشغالهما بهذا المشروع الوطني، ظهر في المنطقة الغربية صوت جميل عرف في الحفلات والمناسبات، ولم يصدر له أي شريط حينها هو طلال سلامة، فتم اختياره ليؤدي الأغنية، وفاجأ الجميع بالأغنية التي بثها التلفزيون السعودي حينها وحفظها الجميع. كانت أغنية مختلفة في إيقاعها ولونها وكوبليهاتها المميزة، وكانت الولادة الحقيقية لطلال سلامة.. الابن النجيب للراحل الكبير طلال مداح، كما كانت الأغنية نقلة نوعية في مسيرة محمد شفيق ومحمد صالح نوار.
·حسرة باقية
من الحسرات الكبيرة لكل محبي الفن الأصيل، رحيل الفنان محمد شفيق دون تنفيذ العمل العاطفي الكبير” رماد المصابيح”، الذي كتب كلماته بدر بن عبدالمحسن وانتهى شفيق من تلحينه لمحمد عبده، بل وتنفيذ موسيقاه وهو في حالته المرضية، إلا أن الظروف المرضية لشفيق ومحمد عبده وتباين أوقاتهما الممكنة لتنفيذ العمل، لم تكمل الخطوة في حياة محمد شفيق.
وفاته
توفي الفنان محمد شفيق يوم الثلاثاء 9 رمضان 1432 هـ الموافق 9 أغسطس 2011م في منزله بجدة، بعد صراع طويل مع المرض، حيث كان يشكو من أعراض تقرحات في المعدة ظهرت منذ عام 2009، وتسببت في انسداد شرايين القلب وخفض وزنه بشكل كبير، ما أجبره على السفر إلى ألمانيا للعلاج وعاد منها ليستكمل علاجه في مدينة جدة، لكن الموت عاجله في منزله.