تناول سيرة ومسيرة الشيخ أحمد صلاح جمجموم وزير التجارة الأسبق، تقتضى أن نعود بالذاكرة للتعرف على البيئة والنشأة والجذور، ليتعرف الجيل الحالي على العوامل التي أثرت في حياته وأسباب إبداعه للمصرفية الإسلامية كمنهج تنموي للأمة، التي أنجزت برؤيته الثاقبة وقدرته العالية على إستشراف الكثير من الأمور بكل جدارة وإقتدار.
النشأة
أحمد محمد صلاح جمجوم، ولد في جدة عام 1925، ينتمي إلى أسرة عريقة تعمل بالتجارة ساهمت مساهمة فعالة في بناء الوطن، تخرج من مدرسة دار الفلاح، ومن مدرسة تحضير البعثات، وحصل على البكالوريوس في الإدارة العامة من أمريكا. ومن ثم أصبح مفكرًا وأديبًا ترك بصمة في مسيرة العمل الاقتصادي الخيري والثقافي والإعلامي.
الجذور و”الوصية”
مؤسس الأسرة الشيخ عبدالرؤوف جمجوم تخرج بتفوق قبل قرابة قبل أكثر من 100عام من الأزهر الشريف، ورجع ليعمل في جدة في التجارة المتواضعة، كان حكيمًا وقورًا يحظى باحترام الجميع في مدينة جدة، جمع عائلة الجمجوم في بيت واحد، كتب وصيته وكانت وصية نادرة فهي موسوعة في تعليم الأجيال المتعاقبة، أوصى خلالها الأجيال التالية بالحفاظ على دينهم وسنة نبيهم والتآخي بينهم، والصدق والأمانة في العمل وعدم الدخول في أي مجال تجاري يغضب الله أو يخرج عن قيم التجارة الإسلامية . ومن مؤسسي عائلة جمجوم الشيخ محمد صلاح جمجوم، الذي تولى الإشراف على مدارس الفلاح بجدة إبان الحرب العالمية . وتعاقب التميز في عائلة جمجوم ومنهم أبناء الشيخ صلاح جمجوم وعلى رأسهم المرحوم الشيخ محمد نور جمجوم، والمرحوم الشيخ أحمد صلاح جمجوم وزير التجارة الأسبق .
سماته الأخلاقية
كان يتمتع رحمه الله عليه بالصبر والجلد على العمل والتفاني فيه، والحرص على إتقان ما يتحمله من أعباء ومسؤوليات، وقدرته على ترك المسؤولية عندما يشعر أنه لا يستطيع أن يقدم فيها ما يريح ضميره ويرضي باله، أو عندما لا يتوفر المناخ المناسب للعمل بروح الفريق؛ ولهذا استقال من رئاسة الخطوط العربية السعودية.
كما كان رحمه الله يمتاز بحسن الطوية وبراءة المقصد، امتثالًا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم” ماكان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه”، هذا ما كان ينطبق عليه من خلال تعامله مع الآخرين، وبالتالي كان كلامه ينزل بردًا وسلامًا عليهم.
حياته المهنية
تقلد جمجوم العديد من المناصب، وفي كل منصب ترك بصمة مؤثرة إلى يومنا هذا، أبرزها حين عين وزيرًا للتجارة لفترتين، ومن ثم مديرًا عامًا للخطوط السعودية (1963-1965)، كما يعتبر من بناة الصحافة في المملكة، حيث عين رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة المدينة للصحافة في عام 1963. ثم تولى منصب مدير عام مصنع الأسمنت بجدة، ومدير عام مصلحة الزكاة والدخل، وأول رئيس لمجلس إدارة الخطوط الجوية العربية السعودية؛ وهو صاحب الفضل في سعودة الخطوط السعودية، حيث كان صاحب فكرة إنشاء معهد تدريب الطيارين والمضيفين والمهندسين والإداريين السعوديين عندما كان مديرًا عامًا للخطوط السعودية . كما عين رئيسًا لمجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة من عام 1407 إلى عام 1417هـ.
إسهاماته الخيرية
وإتباعا لوصية كبير عائلة جمجوم الشيخ عبدالرؤوف جمجوم، حين تولى أحمد جمجوم رئاسة مجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة، كانت جمعيته الأولى التي رعاها مع نخبة من أخيار أهل جدة، وقد تولى رئاسة الجمعية بعد رفيق دربه الشيخ محمد صالح باحارث، ثم تولى رئاسة مجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة حتى وفاته، فأصبحت الجمعية رائدة في أعمالها ومرجعًا لباقي الجمعيات؛ فقد كانت له رؤيته المستقبلية في التطوير وشارك في برامجها ومشاريعها بفكره الثاقب وماله، ولم يتوان ولو لحظة عن حضور محافل ومناسبات جميع الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة وخاصة جمعية جدة .كان يحرص على توسعة قاعدة حلقات ومراكز التحفيظ وانتشارها في جميع الأحياء ويفرح كثيرًا بزيادة أعداد وطلاب التحفيظ وحفظة كتاب الله، ومشاركتهم في المسابقات المحلية والدولية. فأعطاها عصارة فكره وتجاربه وكان يتميز في عمله بالجدية والبساطة وبالشفافية والوضوح، ولا يبخل على العاملين معه بالنصح والارشاد.
البنوك الإسلامية
كما اهتم بالصيرفة الإسلامية وترأس عددًا من البنوك الإسلامية، حيث دعم الشيخ أحمد صلاح جمجموم إنشاء مشروع بنوك فيصل الإسلامية في كل من مصر والسودان، ويقول رحمه الله: رغم وجود العقبات إلا أن الأمير محمد الفيصل قام باتصالات على أعلى المستويات في مصر والسودان، وقد فاز بموافقة الرئيسين أنور السادات وجعفر نميري في العام نفسه. ولأسباب متعددة تم إنشاء بنك فيصل الإسلامي السوداني ثم المصري . وقد تعرض البنكين لصعوبات في كلًا من مصر والسودان لكنهما نجيا بسلام، كان أحمد صلاح جمجموم شغوفًا بالاقتصاد الإسلامي والدعوة إلى إنشاء البنوك الإسلامية، وربما كان من أوائل من كرس الكثير من الوقت والجهد لإبراز هذا الاقتصاد والتعريف به، وجاءت مشاركته في بنك فيصل الإسلامي مع سمو الأمير محمد الفيصل تطبيقًا واقعيًا لأفكاره في المجال، كما كان حريصًا على إرساء الجوانب المميزة للاقتصاد الإسلامي وخاصة الإبتعاد عن الربا.
إعلاء الشريعة
في الوقت نفسه كان ملمًا بالجوانب الأساسية للاقتصاد الحر الحديث وداعيًا إلى تكييفها مع الاقتصاد الإسلامي. من أمثلة ذلك دعوته إلى تبني التأمين التعاوني، حيث أنه هذا لا يتنافى مع المفاهيم الشرعية. أما على الصعيد الداخلي فكان الشيخ أحمد صلاح جمجموم يدعو العلماء للاهتمام بالبنوك الإسلامية، ويذكر له تشديده خلال حفل تكريم أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في 9-11- 1412 هـ الموافق 11-5-1992 على أهمية إعلاء شأن الشريعة في الحياة سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا . ولذلك لم يكتف بالدعوة إلى الاقتصاد الإسلامي وتخليص العالم الإسلامي من الربا، بل امتد ذلك إلى المساهمة في ادارة دار المال الإسلامي، وكان نائبًا لرئيس مجلس إدارة بنك فيصل السوداني، وكان عضوًا في مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي المصري .
التمويل الإسلامي
وفى هذا المناخ، قدمت مجموعة من هيئة كبار العلماء توصية لخادم الحرمين نصت على مايلي :” …رفع الحظر عن البنوك الإسلامية وتطهير المؤسسات المصرفية العامة والخاصة من الربا الذي هو محاربة لله ورسوله وسبب لمحق البركة.” وسميت بالعريضة الدينية .
وللشيخ أحمد صلاح جمجموم تجارب رائدة في التمويل الإسلامي، يقول الدكتور عمر حافظ أستاذ الاقتصاد الإسلامي والرئيس التنفيذي للمجموعة المتحدة للتأمين التعاوني سابقًا، وأمين عام المجلس العام للمؤسسات المالية الإسلامية سابقًا : “كنتُ أبحث مسألة في التمويل الإسلامي لرأس المال الجاري، وكنت أعرف من معالي الشيخ رحمه الله، أنه يتعامل مع البنوك السعودية بغير النظام الربوي ذي الفائدة الثابتة على رأس المال. فذهبت للتباحث معه، حيث إن البنوك السعودية لا يعرف عنها، تمويل رأس المال الجاري بغير تمويل الحساب المكشوف، ذي الفائدة الثابتة على الرصيد في نهاية الفترة المتفق عليها، وكانت المفاجأة أنه -رحمه الله- يحصل على تمويل لحساب أعماله الجارية من بنك سعودي عريق، ليس على أساس القرض الربوي ذي الفائدة الثابتة، وإنما يحصل على هذا التمويل، بناء على ما يحققه عمله من أرباح في نهاية الفترة، وذلك بنسبة ما يمثله هذا التمويل من وزن في تمويل نشاطه التجاري، مقارنة بالتمويل الذاتي لهذه الأعمال. وأفادني أنه كان يقدم للبنك أضعاف ما تحققه الفائدة الربوية. وسألته -رحمه الله- عن أساس هذه الثقة، وكيف يمكن للبنك أن يفعل ذلك؟ ولماذا لا يفعل ذلك مع غيره ويجنب الناس المعاملات الربوية الظالمة؟، أفادني أنه يتبادل الثقة مع البنك خلال فترة طويلة، وأنه يمسك بدفاتر تجارية منضبطة، أورثته الثقة من النظام البنكي، وأنه لا يمكن أن يتجنب الربا ليقع في الكذب والاحتيال على البنك. فكانت لديه نظرة فاحصة متأنية على التحديات التي واجهت التطبيق للاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية”.
المعهد الدولي
وكثمرة لجهوده الكبيرة، قرر مجلس إدارة الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية أهمية إنشاء منظمة تهتم بالتعليم المصرفي الإسلامي، وفي عام 1401هـ / 1981م تم إنشاء المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي، ولقد شارك في تأسيسه معظم الجامعات العربية والإسلامية وكذلك العديد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية، ولقد اختيرت دولة “قبرص التركية” مقرًا له. وقد تشكلت إدارة للمعهد من كل من سمو الأمير محمد الفيصل آل سعود رئيسًا لمجلس الإدارة، والشيخ أحمد صلاح جمجوم رئيسًا تنفيذيًا، والدكتور أحمد النجار أمينًا عامًا، وكان من أهم اهداف المعهد:
أ ـ إعداد أجيال تجمع بين الثقافة الشرعية والخبرة الفنية في مجال الاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية .
ب ـ التوصل إلى بلورة المنهج الاقتصادي الإسلامي .
جـ تكوين مدرسة الاقتصاد الإسلامي .
د ـ وضع الضوابط العلمية والعملية للمؤسسات المالية الإسلامية .
هـ ـ تشجيع الدراسات والبحوث في مجال الاقتصاد والمصارف الإسلامية.
وفاته
توفي الشيخ أحمد بن محمد صلاح جمجوم وزير التجارة الأسبق بعد صراع طويل مع المرض، رحمه الله، في عام 2010، الموافق 25 جماد الثاني عام 1431هـ. وبرحيله فقدت المملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي، واحدًا من أبرز القيادات الإدارية الناجحة، وعلمًا بارزًا من أعلامها. فقد كان رحمه الله، مثالًا للمسؤول المخلص لدينه ووطنه، محبًا للآخر. وكان صاحب فكر مستنير، وحضور مميز يثري كل لقاء يحضره من خلال أطروحاته المتميزة.