استطاع المخرج الشاب محمود صباغ أن يرسم لموهبته طريقا واضحا٬ ويفسح لهذه الموهبة المجال والظهور في عالم السينما٬ حتى قيل عنه في مهرجان برلين السينمائي «محمود صباغ موهبة تستحق المتابعة».
وفي فيلمه الثاني «عَمْرة والعرس الثاني» ٬ الذي شهدت عرضه الأول سينما فيو في العاصمة البريطانية لندن٬ على مدار 135 دقيقة وسط حضور عربي وغربي كثيف٬ لافتا إلى موهبته التي تتبلور بوضوح أكبر٬ مختلفا عن فيلمه الأول «بركة يقابل بركة».
وإن كانت أبرز السمات المختلفة بين الفيلمين هو شكل التعاطي مع الكوميديا٬ فبينما “بركة” كان يميل إلى الكوميديا الاجتماعية الخفيفة٬ نجد أن الكوميديا السوداء تظلل أحداث الفيلم٬ واستغل صباغ موهبة الشيماء طيب الفطرية في ظهورها الأول على الشاشة٬ فيما شاركنها بقية الممثلات طبيعية الأداء وتقمص الشخصيات بمقدرة ممتازة: «شيماء الفضل» سارة، و«سارة الشامخ» جميلة. وأم الزوج سعدية «خيرية نظمي»، وأمعنت «أم كلثوم» حميدة، في تنفير المشاهد منها، بحسب ما يقتضيه دور الفتاة اللعوب الساعية إلى بهجة الحياة حتى لو كلفها ذلك سمعتها، وأتقن الشاب الموهوب «محمد الحمدان» دور «داحم» بتلقائيته المحببة، والأداء الرصين لتركي الجلال «راشد».
شخصية عمرة
«عمرة» شخصية حيوية أجادت أداءها «الشيماء طيب» التي برعت كثيرا وأدت بتمكن يضعها في مصاف الممثلات القديرات، سيدة أربعينية، تبحث عن أمان المستقبل، هي امرأة سعودية تقليدية، الزوجة المغلوبة على أمرها والتي يكاد ينحصر وجودها في المطبخ، يبدأ الفيلم معها وهي تعد أطباقا عامرة من الأرز والدجاج تسلمها لزوجها من وراء حاجز ليحملها لضيوفه. فهنا عالمها في المطبخ وهو مطبخ جميل في ألوانه وتكوينه، غير واقعي إلى حد كبير ولكنه «مملكتها» كما تقول لابنتها. تعمل عمرة بشكل دائم، تخبز الكعك المحشو بالتمر لتبيعه في سوق المجمع السكني، ولكنها تبيع بسعر منخفض جدا لترضي زبوناتها اللواتي يستغللن طيبتها أو ربما ضعفها كما يتراءى لهن.
تواجه مجتمعا نسائيا، ساكنات المجمع السكني (الكامب) المخصص لعائلات العاملين في محطة تكرير النفط، يتكون مجتمع نسائي، شخصيات مأزومة، خائفات من زواج أزواجهن عليهن، لذا يردن من عمرة أن تفتديهن وتقدم زوجها لـ«عشتار»، تلك الرمزية الأسطورية لاسم عشتار، ويهاجمن عمرة لعدم خضوعها، وفي ذات الوقت لا يهمهن من أمرها سوى أن تزيل عنهن خطر زواج أزواجهن من عشتار (الرمز) ومن ثم الإمعان في استغلالها، وهي بالتالي لا هاجس لها سوى حماية كينونتها الأنثوية من الزوجة الثانية والحفاظ على بيتها وبناتها، ولهذا تدير مجموعة الناقمات حولها بحكمة، وربما بكتم الضغينة عليهن.
أما الزوج نراه في اللقطات الأولى يختفي عن الشاشة بشخصه ولكنه موجود دائما، الحديث يدور حول نيته الزواج من امرأة شابة جميلة سكنت مع عائلتها في المجمع حديثا، سيتزوج لأنه يريد أن ينجب ولدا. نيابة عنه تتحدث الحماة القاسية في كلامها وطباعها وأيضا الزاعقة دون سبب منطقي سوى ربما لتنميط شخصيتها المتسلطة على زوجة ابنها الضعيفة لصالح تعزيز مكانة ابنها في عالم الذكور.
التعدد
يمضي الفيلم لنتعرف على عائلة عمرة وبناتها ووالدتها المسنة ووالدة الزوج٬ وهن إن كن يعشن في بيت واحد إلا أن كل منهن تمثل شريحة مجتمعية أو عمرية نسائية قائمة، بل وإنهن بلهجاتهن المختلفة يمثلن ثقافات مناطقية داخلية في مجتمع سعودي واحد، يمثلن حالات نسائية في المجتمع، يواجهن تلك الحالة المعتادة، زواج الأب من زوجة ثانية٬ وهو
الخط الرئيسي في الفيلم يحكي بتفاصيل دقيقة مشاعر زوجة قرر زوجها أن يمارس حقه الشرعي في الزواج مثنى وثلاث ورباع.
لكن «عمرة» لا تستسلم للضغوط التي تواجهها وأولها رغبة والدة زوجها «سعدية» في تزويج ابنها بأخرى لكي تنجب له الذكور؛ وضغطها في إخراج (نفيسة) والدتها من المنزل؛ لكنها تسعى إلى حل أزمتها بكل الطرق التي أمامها، تارة بالصلاة والدعاء، وتارة باللجوء الى الشعوذة وشرب الماء المقري عليه ورشها على البيت، وأخرى إلى استشارات تنمية الذات، وجمعيات الارشاد النسائي، وأخيرًا تلجأ إلى السحر الأسود. لكن كل هذا التوتر المحموم الذي تبدو عليه عمرة بحنكتها يذكر ويحيل إلى قوة وضعف ورجاحة عقل الشخصية في آن، ويكشف عن أبعاد حقد انتقامي دفين لا يداويه إلا إشعال النار في الجميع.
أسلوب اخراجي
يعتمد صباغ على طاقم ممثلين ليس لهم تجارب أدائية درامية سابقة، عدا الممثلة «سناء يونس»، كضيفة على الفيلم، ما يعني تكبل مشقة التدريب للخروج بأفضل أداء ممكن. الرمزية أيضًا تأخذ حيزا في سياق الفيلم، إلا أنها تصل بدلالاتها المتوارية للمشُاهد المتأمل، أو بمفهومها الظاهر الذي لا يستغلق على المشاهد العادي، مثل انسكاب الماء من قارورة الشيخ. فيما ينحصر زمن السرد في مدة شهر أو أقل.
إلى جانب ذلك تظهر حرفية توظيف المؤثرات الصوتية الطبيعية والموسيقية لـ«تامر كروان»، علاوة على التحكم في ايقاع السرد الذي يخلق حالة ديناميكية تبعد المشاهد عن الملل، تتوافق معها حالة المونتاج المتزامنة مع زوايا التقاط الكاميرا ببراعة٬ وتضفي بعدا تشويقيًا، بل وجماليا كما هو الحال في التكوينات البصرية للكوادر الواسعة والبعيدة، للجبال والبحر، أو للبيوت في المجمع السكني، وأيضا تلك التي ظهرت منذ أول مشاهد الفيلم وتصور جمالا تسير في صحراء وخلفها مصانع تكرير النفط وأعمدة الكهرباء، بما يوحي بامتزاج البيئة الصحراوية مع طفرة البترول٬ وأثرها في تشكيل شخصيات الابطال وارثهم الثقافي. ولا يمكن تجاوز اللغة الايحائية الذكية في الفيلم، والتي تفصح دون ثرثرة الصورة ولغة الجسد والاشارات ودلالات الأغنيات٬ ثم دلالات النار، المشتعلة في حقول النفط، وفي مطبخ عمرة، تمهيدا لما سيأتي، ومشهد حوار عمرة وصديقتها سارة في المسبح.
النهاية
في الجزء الأخير من الفيلم، يتسارع الإيقاع، تتأرجح الأحداث بين واقعية سحرية ساخرة، وبين تراجيديا كوميدية سوداء… يصل التصعيد الدرامي الى ذروته. لم يعد يدرك المشاهد ما تراه عينه، أهو ضمن السياق الواقعي الذي سار عليه الفيلم، أم أنها تهيؤات تدور بمخيلة البطلة، نهاية قوى التسلط المتمثلة في سعدية. انتقام عمرة من عشتار. طرد الجار المحب «راشد».. مشاهد متلاحقة ونهايات صادمة ومباغتة، في حين يأتي المشهدان الأخيران هادئين عميقين. تقول الفتاة الصغرى «جميلة» لوالدتها، بعد تحقيقها تقدما مذهلاً في عزف الموسيقى، في ذات اللحظة التي يقام فيها العرس٬ انه انتصار «جميلة» الذي طمأن قلب الأم، والذي سيقودها وأمها إلى عالم جديد مليء بالاندماج مع الحياة الجميلة الموعودة، تنظران ببرود إلى خيمة العرس، بينما صوت الطرب ينساب، تقول لوالدتها: يللا ماما خلينا نروح البيت.