بقلم :السعد المنهالي
(ثم من هو أساساً؟!) يزلّ بعض المثقفين فيأتي هذا السؤال في عرض حديثهم عن رأي أبداه آخر ولم يرق لهم؛ وهي إن كانت زلة؛ إلا أنها تعبر بكل صراحة عن المرتبة التي يضعون فيها هذا الآخر الذي لم يتوافقوا مع رأيه. والحقيقة أنه مهما تنوعت وتعددت وأحاطت أدوات المدَنية والتحضر شخصاً ما أو جماعة، تظل صفة التحضر منقوصة إذا لم يكن الفعل الثقافي حاضراً في علاقة هذا الشخص أو المجتمع بذاته وبالآخرين.
والفعل الثقافي ليس سلوكاً حكراً على جماعة من دون غيرها، فهو فعل إنساني قد يُولد بعضنا به، لذلك فهو غير مرتبط بدرجة علمية أو قراءات فكرية، وإن كانت هذه المقدمات مؤثرة بلا شك على وصول الوعي إلى الفعل الثقافي. والفعل الثقافي لا يعني إقامة الفعاليات الثقافية أو المشاركة فيها، وحضور الأمسيات الأدبية، واقتناء اللوحات النادرة وقراءة الكتب وحفظ أسماء كتابها، وغيرها من أدوات تَحضُر ـ دُرج على اعتبار من يقومون بها أنهم مثقفون ـ بل هو الفعل الذي يفضي إلى القدرة على استيعاب الآخر واختلافاته وكل خياراته.
وفعل الاستيعاب ليس بتلك السهولة التي قد يعتقد بعضهم تزيفاً بينه وبين نفسه أنه يمارسه؛ فالحقيقة أن الإنسان الطبيعي يتعامل بـ “انتقائية” مع كل ما يأتيه من الآخر، وبسبب انتقائيته تلك لا يُعرض نفسه لما يختلف مع اتجاهه وميوله، بل يتجنب ذلك، إن حدث وتعرض لشيء كهذا، عرضاً، فإنه ينتقي منه ما يريده ويتوافق معه، وحتى الآن فالأمر عادي؛ ولكن أن يتحول، بلا وعي، إلى حالة بغض أو عداء مع ما لا يتوافق معه، هنا يكمن الخطر، ويغيب الفعل الثقافي، كون رد فعل الإنسان تجاه “من” يختلف معه، يتفوق على رفضه “ما” لا يتوافق معه؛ فلا تصبح الفكرة مرفوضة “فقط”، بل يصبح صاحبها عدواً!
المثير أنه مع ازدياد الأعداء ـ بالمفهوم السابق بحكم كثرة الأفكار المختلفة والمتعارضة ـ يتحول المحيط المتمدن الحضاري، إلى آخر بدائي همجي. وبين استخفاف وتهميش وإقصاء أو محاربة أصحاب الرؤى المختلفة؛ يتحول عقل الإنسان المتحضر المحاط بكل أسباب المدنية، إلى عقل آخر يسكن كهفاً معتماً تحلق فيه خفافيش العصر الحجري. للأسف.. نتشدق نحن البشر كثيراً بأقوال تعجبنا، فنتبناها علناً، ونعيشها صورة نرسم ملامحها بدقة على وجوهنا، ونصطنع بعضها أفعالاً نوهم أنفسنا بأنها لنا، كاحترام الآخرين وخصوصياتهم، وقناعاتهم، وآرائهم؛ ومن دون وعي نسقط في فخ تصديق أنفسنا.