بعد النداء الأعظم الذي ارتبط بأبو الأنبياء إبراهيم؛ لدعوة الناس لحج بين الله الحرام؛ تغيرت الخارطة الاجتماعية والإقتصادية لمكة المكرمة؛ وبمرور الأيام؛ أصبح لأهل مكة طقوس لا تجدها الا عند جيران البيت؛ وجاءت السدانة التي أوكلت من فوق سبع سماوات لآل الشيبي فقط؛ واعمال السقاية والرفادة؛ لتفتح لأهل الحرم أبواب الرزق تزامنت مع شعيرة الحج العظمى؛ في التقرير التالي نحاول رصد أبرز تلك الطقوس.
رفادة جيران البيت عبق من التاريخ.
لكل من قرأ في الحج من زاوية تاريخية؛ يعرف تماماً أن الرفادة كانت هي العمود الفقري؛ لجيران البيت في كسب الرزق والتي كانت ولا تزال تحت مظلة «الطوافة»؛ وكما أبان الدكتور سمير برقة أن هذه المهنة قد مرت بمراحل عدة أولها هي المرحلة «الروحانية المطلقة على مدى عقود طويلة؛ كونها كانت تختار أسر معينة للقيام بهذا الدور؛ استناداً قوانين تلك الأزمنة التي توكل مهام تعليم المناسك لحجاج كل دولة لعائلة بعينها من الدول المعلومة؛ فيما يبقى امر «البلاد المقفلة» كما كان يطلق عليها حينها وهو مسمى يطلق على أبناء الدول التي لم تعرف الحج؛ وكان المطوفين في ذلك الزمان يقومون بالسفر لتلك البلاد لدعوتهم للإسلام ويصبح حجاج تلك الدول تحت امرتهم».
وأوضح برقة أن هذه السفرات التي يقوم بها المطوفون تندرج تحت ما اسماه بـ «الرحلات المعاكسة» وهي الوجه الآخر لرحلات الحج التي تقصد بيت الله الحرام والواقعة في الفترة ما بين (1309-1397هـ.) مؤكداً على «رصد تلك الرحلات من خلال 80 وثيقة لمطوفين تلك الفترة تبين قيامهم بدور الداعية؛ وهو امر كان قوامه العلاقات الإنسانية التي ربطت المطوفين بأسر الحجيج ناهيك عن المصاهرات التي شكلت فيما بعد المجتمع المكيّ؛ واعطته التنوع الثقافي والمعرفي والعرقي؛ بالإضافة للتنوع الاقتصادي ورحلات التجارة التي انعكست على الحالة الاقتصادية للمكييّن في ذلك الوقت».
وأوضح برقة ان مهنة الطوافة لم تتم خدمتها وتطويرها؛ كما حصل في العهد الملك عبد العزيز؛ الذي اقر المهنة وبدأ تطورها وتنظيمها؛ حتى وصلت لما وصلت اليه الآن؛ من خلال التشريعات والقرارات التي نظمت العاملين فيها والقائمين عليها من أبناء مكة المكرمة؛ وهو ما يتضح في العام (1346هـ) إقرار مدرسة لتعليم المطوفين المناسك؛ ثم في العام (1367هـ) نظام رئاسة المطوفين؛ تلاه في العام (1382هـ) انشاء وزارة الحج والأوقاف؛ ثم انشاء مؤسسات الطوافة والبالغ عددها سته موزع عملها توزيعاً اقليمياً؛ حسب الدول الإسلامية؛ والتي يقودها حالياً (15) الف مطوف ومطوفة بنسبة (56%) مطوفات و (44%) مطوفين».
ضيف الرحمن في كنف جيران زمزم.
عرّاب العلاقة التي ربطت بين ضيوف بيت الله الحرام والمكيين؛ هم المكيّين أنفسهم؛ وذلك وفقاً لما أوضح برقة «نوعية العلاقة بين أسرة المطوف والحاج حميمية تقوم على التبادل الثقافي الذي يبدأ من بيت المطوف الذي يستقبل فيها الحجيج؛ ليقوم على رعايته طوال فترة الحج؛ من خلال اطعام الحاج وأسرته؛ تقوم زوجة المطوف وبناته وكل سيدات المنزل؛ بخدمة الحجيج؛
بالإضافة لقيام المطوفين في بعض الأحيان بتسليفهم لمواجهة نفقات محددة؛ ولا يقف الأمر في موسم الحج؛ بل يأتي تبادل الرسائل بين المطوف والحجاج بعد انتهاء الموسم؛ ما يعكس شكل وطابع العلاقة الإنسانية».
وأشار برقة إلى أن المطوفين في فترة من الفترات كانوا يقومون؛ بالذهاب إلى مقر الحجيج؛ لتعليمهم المناسك وتزويدهم بالمعلومات حسب مذاهبهم؛ كما أن مغادرة الحاج لا تتم؛ إلا بموافقة وتفويض من قبل المطوف؛ ويتضح ذلك في كثير من الوثائق في فترات سابقة.
حج وبيع سبح.
«في موسم الحج تتحول مكة لخلية عمل؛ كل من فيها يعمل على خدمة ضيوف الرحمن؛ ولم تكن الطوافة او الرفادة احتكاراً على أحد»؛ بهذه الكلمات وصف برقة حال المكييّن في ذلك الوقت موضحاً؛ انه لا يزال اهل البيت يتفانون في اكرام الحجيج كلاً حسب مقدرته موضحاً ان ما يسمى بالخليّف ارتبط بفراغ مكة المكرمة من الرجال في يومي التروية وعرفة لخدمة الحجاج في المشاعر المقدسة؛
الأمر الذي انعكس على إطلاق كلمة «خليّف» وهو ما حمل نساء مكة في وقت من الأوقات على الخروج لحراسة البلد الحرام كما ورد في كتب التاريخ قديماً؛ في حين اعتادت نساء مكة في التاريخ الحديث على الخروج في يوم الوقوف بعرفة على الخروج للحرم المكي صائمي عوضاً لمن لم يخرج منهم للحج وتناول الإفطار فيه والطواف والدعاء.
وانعكس خروج رجال مكة للمشاعر؛ على ولادة طقوس اجتماعية؛ كما أوضح الدكتور طارق كوشك «منها عمل اكلات خاصة لا تظهر إلا في موسم الحج وهي المعمول والغريّبة؛ التي تقوم على صناعتها النساء؛ لتكون قوت الرجال في المشاعر مدة الحج؛ فيما تأتي لحوم الأضاحي التي ينحرها الحجاج؛ بعد بيعها من قبل الجزارين في ذلك الوقت على اهل مكة؛ الأمر الذي انعكس على ارتباط أطباق الكبدة والمقلقل في أيام التشريق الثلاثة»؛
واكّد كوشك على أن ضعف مظاهر عيد الأضحى في مكة المكرمة< جاءت نتيجة طبيعية؛ كون المكييّن يقومن على خدمة الحجيج في المشاعر وفراغ مكة من رجالها؛ لكن ذلك لم يمنع الأسر المكيّة النساء خصوصاً من إقامة الولائم داخل بيوتهم والسمر داخل المنازل مع الأقارب والأصدقاء».
وأشار برقة إلى أحد المشاهد التي اختفت اليوم؛ والمرتبطة بالحجاج الأفارقة حيث كانوا «يقومون بتجفيف اللحم وتعليقه على حبال؛ ليتسنى لهم اخذه معهم لبلادهم كنوع من البركة من بلاد الله الحرام».
ومن المظاهر التي اختفت ايضاً تحكي المطوفة شادية جنبي «اعتاد كثيرين إقامة ما يسمى بـ «الجوجو» وهي احتفال يقام في العيد لمن لديهم حديثي ولادة، ويقومون برشهم بالمكسرات والحلويات المحشوة بالجوهري والسكاكرما كان يسمى حينها بالنُقل والحمص واللوز والريالات الفضة والجنيهات الذهبية على رؤوس الأطفال؛ والتغني بعبارة جوجو حججوه» على سبيل التدليل للطفل».
وتروي جنبي عن سوق منى التي كانت متنفس للحجاج؛ يقومون بالتبضع منها؛ على ضوء «الأتاريك» موضحة «من اشهر أسواق منى كان سوق العرب وسوق الجوهرة وهي عبارة عن خيم صغيرة تبيع القماش والفواكه التي كان يشتريها اهل مكة من الحجاج؛ ثم يقومون ببيعها بنظام المقايضة» موضحة أن الأوزان والقياسات التي كانت تستخدم في ذلك الزمن واختفت اليوم هي بالنسبة للأقمشة كان ما يسمى بالهنداسة اما الخضار والفواكه واللحوم بالأوقية وهي أقل من كيلو».