أن تجمع بين الفقه والأدب والقضاء؛ تلك شهادة في السماء، وشهود على الأرض؛ ذلك هو ما عاصره جيل الطيبين؛ لأن محدثيهم كانوا من الطيبين؛ قلوب تعلقت بكل ما هو بسيط؛ فكانت حياتها ترجمان تلك البساطة.
عندما يطل عليك محدثك عبر شاشة صغيرة؛ لا يظهر منها إلا شيخ جليل في رداء أبيض يتنافس مع بياض وجهه ولحيته؛ ناهيك عن طبق الفاكهة الذي يتصدر طاولته وجهاز الراديو الصغير أمامه؛ لا تعلم ولم يكن عقلك يطرح أسئلة الـ “ماذا ولماذا؟” لكنك مأخوذ بهذه الإطلالة للشيخ وطريقته الفذة في التلقائية وكأنك تجالس والدك أو ربما جدك في ذلك الزمان!
علي الطنطاوي ذكرى بيضاء تشرف عليها ذاكرة جيل عريض؛ عند حضور مائدة الإفطار؛ ومع كل طلقة لمدفع رمضان؛ ينتظرونه وهو الذي كان دائماً لا يخلف موعداً؛ بإمكانك أن تضبط ساعتك على توقيت حضوره عبر التلفزيون، لا لشيء؛ بل لحرصه هو على النظر في ساعته طوال مدة البرنامج الذي لم يكن يتخطى حاجز الخمسة عشر دقيقة؛ مسجلة وليست على الهواء؛ كل ذلك لحرصه على الوقت ولكي لا يأخذه السرد!؛ وعندما يأخذه الحديث يتوقف فجأةً مخاطباً المخرج؛ بأن الوقت قد انتهى، معلناً انتهاء الحلقة ومؤملاً بحلقة جديدة في الغد!
ترك الشيخ ارثاً تلفزيونياً واذاعياً؛ ناهيك عن الإرث الفكري المكتوب؛ عبر سلسلة اصدارات لا يتسع المجال لذكرها؛ وكان من الشخصيات التي لا تألوا جهداً في البحث والقراءة والتنقيب؛ حتى بلوغه الثمانين؛ كونه عمل صحافياً في فترة من الفترات ولم يتوقف عن الكتابة لبعض الصحف؛ ومن أبرز ما نشره الشيخ في المرحلة الأخيرة من عمره كانت سلسلة ذكرياته؛ التي كان ينشرها كل خميس في الصحافة السعودية؛ حتى توقف عن نشرها عندما قاربت المئتين وخمسين حلقة؛ فأخذ قراراً بالتوقف وودع قرائه قائلاً “لقد عزمتُ على أن أطوي أوراقي، وأمسح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعيشها من سنين، فلا أكاد أخرج من بيتي، ولا أكاد ألقى أحداً من رفاقي وصحبي”.
الطنطاوي الدمشقي العتيق؛ الذي كان له الحظ أن يجمع بين الدراسة تلقيناً عن المشايخ والتعليم النظامي في العاصمة السورية دمشق؛ حتى عمر الستة عشر؛ عندما توفي والده فاضطر للعمل بالتجارة للقيام بأعباء أسرته؛ قبل أن يقرر العودة للدراسة مرة أخرى ولكن هذه المرة من أم الدنيا مصر لدراسة الحقوق؛ بعدها بأعوام شاءت الأقدار أن تأخذه للعاصمة السعودية الرياض مدرساً في كلية الشريعة واللغة العربية “جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية”.
إلى أن حملته الأقدار مرة أخرى من دمشق إلى مكة المكرمة؛ للتدريس فيها وهو مالم يستطع الشيخ رفضه؛ فأقام في أجياد مكة مجاوراً الحرم المكي، وامضى خمسة وثلاثين عاماً؛ بعدها انتقل إلى جدة وبقي فيها حتى وفاته لينتقل مرة أخرى للإقامة الأبدية في معلاة مكة التي دفن فيها؛ للطنطاوي برامج كثيرة قدمها للإذاعة والتلفزيون منها مسائل ومشكلات الإذاعي بالإضافة لبرنامج “نور وهداية الشهير؛ فيما يظل “على مائدة الإفطار” الأكثر شهرة ورسوخاً في الذاكرة الرمضانية عند السعوديين.