بقلم: السعد المنهالي
قيل: هناك بعض الطرق.. لا تحتاج رفيقاً، لأنه بكل تأكيد سيشغلك عن الالتفات للكثير من التفاصيل الجميلة. ويقولون أيضاً: «لا تراهن على هزيمة شخص.. لا يخاف وحدته».
تكثُر المقولات التي تمدح العزلة وصاحبها القوي؛ وتشير إلى التشتت الذي يسببه الرفيق أو الصحبة؛ والحقيقة أنني اتفق كثيراً مع هذه الآراء، بل وأجدني أميل إلى السكون وكأنه متنفس شرح، وأسعد بالعزلة واحتفل بها كاحتفاء ذلك الخارج في نزهة مع أعز أصدقائه، سعيدة، تملؤني البهجة لأني سأكون وحيدة. عندما أدركت هذا التوجه فيَّ، قلقت على نفسي في أول الأمر، غير أن إغراءات هذه الحالة جعلتني أتجاهل كل سلبية واردة في أي من كتب علم النفس أو من المتحذلقين به.
تشير كل الأديان إلى أن العزلة عبادة، والانفصال عن الجموع والعامة فضيلة، والذود بالصمت والانشغال بالتأمل الشاكر لنعم الله فوز عظيم. وحسب من تمكنوا من هذه الحالة، فإنه لا يبدو في الحياة ما هو ألذ من ذلك، مهما بلغت متع الالتقاء بالناس وجموعها.
في رواية قرأتها مؤخراً بعنوان «ترنيمة سلام» يطرح الكاتب أحمد عبدالمجيد «الأنس بالوحدة» كأحد مراحل السلم والسكينة واكتشاف الذات وتكشفها، وهي درجة لا يصل لها أيٍ كان؛ فبلوغها يحتاج الكثير من العمل والجهد وتحمل إلحاح الآخرين واستهجانهم.
في العمل الذي وصل إلى القائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2014، يقدم المؤلف رؤية مهمة لفلسفة العزلة عبر سؤال طرحهُ البطل على معلمه،
يقول فيه: كيف يجب أن أحافظ على سكينتي وجوهري وسط الناس، وهل عليّ أن اعتزل الناس مقابل ذلك؟! ويقدم خلال رواية بسيطة تصوراً مركباً حول ما يحتاجه المرء ليكتشف حقيقة جوهره التي غمرتها الحياة بتفاصيلها الكثيرة. يدفعه المعلم ليكتشف الإجابة بنفسه، لينتقل بكل تفاصيل عزلته إلى قلب العالم، فيباشر حضوره ضمن حدود ذاته لا بشروط هذا العالم، مهما بلغ جبروته. يظل قابعاً فيه متأملاً له، ومستقلاً عنه بكل عناصر ذاته.
بعيدة عنهم سأُبقي قلبي نقياً رائقاً حالماً. سأبقى بينهم استخدم حيلتي متجهة إلى نفسي أطرق أبواباً جديدة تسطع من خلالها أضواء براقة، تنتشي بها نفسي.
سأتحايل كثيراً لأفر بنفسي إلى نفسي بعيداً عن خدوشهم، سأتجول داخل دهاليز روحي عبر ممراتي السرية، بين جنباتها سأتسكع لأكتشف في كل مرة أبواباً أقابلها للمرة الأولى، سأقترب منها وأطرقها لأسمع صدى تلك الروح الحقيقية القابعة هناك.. بعيداً.