بقلم: السعد المنهالي
عندما تقرر أن تقف أمام أي شيء، وتسمح له أن يمر عبر حواسك، ثم تعطي عقلك فرصة للتعاطي مع ما خلفه من أثر، فأنت هنا تحاول أن تتذوقه. وعندما تتعمد أن تفعل ذلك بشكل متكرر وتعطي نفسك وقتاً أطول في التعاطي مع مؤثرات وتأثيرات ما وقفت أمامه، فأنت هنا تمتلك «شهية تذوق» وبناء على ذلك، فأنت بفعلك هذا تمارس إحدى أكثر السمات التي يتفرد بها الإنسان عن بقية المخلوقات، أنت بذلك تمارس إنسانيتك وتقترب أكثر من جوهرك.
لا تحدث هذه العملية كانعكاس طبيعي، كما يحدث في المرآة للأشياء التي تمر أمامها، فتلقّي الإنسان للجمال يمر بعمليات طويلة غير محددة الزمن وخطوات كثيرة متشابكة. فالمتذوق وأثناء التلقي، يمر بتساؤلات تعبر به إلى مراحل مختلفة حتى يقبض على الجمال في العمل المُتلقّى، سواء أكان خلقاً إلهياً أو إبداعاً إنسانياً، فتحدث ثورة التساؤلات وإدراك الذات المتوافق منها والمختلف مع العمل المتلقى، ثم يصل المتذوق إلى نقطة لا يمكن معها إطلاقاً اعتبار نفسه وقتها كما كان قبلها.
لا تأتي هذه العملية فجأة، فهناك مراحل يمر المرء فيها حتى يصل إلى قراره في جمالية العمل المتلقى، أولاها الاستعداد الحقيقي للاستمتاع بالجمال، وهي حالة نفسية تأتي بالتربية في الأساس، أو بتطوير الوعي لمن فاتته التربية؛ ثم تليها مرحلة احتواء العمل المتلقى بعيداً عن المؤثرات الخارجية؛ لأن العزلة مع العمل تجعلنا نحياه، والتعامل مع تفاصيل العمل بعيداً عن أحكامنا القيمية السابقة تجعلنا أكثر شفافية في تبيان جوهره.
خطوات كهذه، تدفعنا بكل تأكيد إلى الإحساس بتفاصيل العمل، تثير فينا انفعالات، قد تستدعي ذكريات فترتفع درجة التأثر، أو تلمس أحلاماً لدرجة التحليق فتستقر في النفس حالة من الرضا والإعجاب، وهنا تتحقق المشاركة الوجدانية، ويحدث التذوق الجمالي؛ وهي لحظة إبداعية بكل المقاييس، كونها نبتت في الداخل بعد أن شرع المتلقي نوافذ الإحساس لديه، «لحظة» استنشقت عليل الخيال، وضربت بجذورها في الوجدان.