لماذا يبدو بعضنا متحمساً أكثر من غيره لما يملك من معرفة، فتجده يتحدث عنها بولع، ويمضي حثيثاً لإضافة الجديد لها، ويدفع الآخرين لمشاركته ذلك بشتى الوسائل؟! فيما آخرون لا يملكون هذا الإصرار، وحتى لو توافرت لهم المعارف والعلوم، فإنها ستتوقف تماماً أسفل أقدامهم!
الإجابة تكمن في الشغف.
بعض الدراسات الحديثة تؤكد أن النبوغ – على خلاف ما اعتقد طويلاً أنه ميزة وراثية – يعود في اشتعاله إلى الشغف الذي يعد الحافز الوحيد للمضي في مشوار التمييز وإنتاج الفريد. ولكن كيف يحدث هذا؟
حسناً.. للآن لم يعرف أحد كيف يحدث الشغف، غير أن الأكيد أنه لن يحدث خارج حدود وعينا، والأمر الآخر الأكيد أيضاً أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض غير شغوف بأمر ما، البعض شغوف باللغة، وآخرون شغوفون بالتقنيات، وغيرهم بالفنون.. وهكذا، في أصناف لا آخر لها ولا حدود لتفاصيلها. وأمام هذه الحقائق، علينا أن نراقب ذواتنا بتركيز، ونلتقط الأمور التي تجعلنا أكثر حماسة من غيرها، ومن ثم نستثمر الطاقة التي تبثها فينا، ونمضي بها لمنطقة أعمق، ولنحقق بها جرعات الرضا، وبالتالي السعادة.
في مجتمع المعرفة، حيث يتشارك الجميع ما لديهم من معارف وخبرات في حلقات لا نهائية من الأخذ والعطاء، يجد الأفراد ما يحفز شغفهم بشكل أسرع من غيرهم، ممن يوجدون في مجتمعات لا تتشارك فيها المعارف، لكون الأولى تُوجد بيئة مناسبة لاختبار عمق ما نحن شغوفون به. أضف إلى ذلك، اختبار الجدوى الحقيقية له، فأي شغف لا يساهم في تقديم شيء للآخرين يعد منقوصاً. كما أن مشاركة الآخرين شغفك لن يُعد أمراً غريباً، لكون ثقافة هذا المجتمع قائمة أساساً على هذه المشاركة، وتشجيع هذا الشغف.
أقدم هنا نموذجين لمجتمع المعرفة يفصل بينهما مائة عام تقريباً، أحدهما ظهر في نهايات القرن التاسع عشر، تحديداً عام 1888، وآخر ظهر مع نهايات القرن العشرين وتحديداً عام 1990. الأول هو الجمعية الجغرافية الوطنية التي قرر مؤسسوها الشغوفون بالجغرافيا والطبيعة والعلوم، مشاركة الناس شغفهم بإلهامهم المحافظة على الأرض، فأنتجوا مجلة ترصد هذا وتثري ما لديهم من معارف عبر التبادل. فيما كانت المؤسسة الأخرى «تيد» معنية بنشر الأفكار الجديدة والمميزة للعالم، عبر مؤتمر يتحدث فيه الشغوفون عن ما هم مولعون به في مدة لا تتجاوز 18 دقيقة بطريقة مشوقة.
المثير في كلا المجتمعين، والمعروفين اختصاراً «ناتجيو» و«تيد»، أنهما عابران للقارات، وأنهما غير ربحيين، وأنهما يشكلان بيئة محفزة لمن يبحث عن شغفه، ومن يملك شغفاً ويريد أن يقدمه للآخرين بصورة مميزة في هذين العالمين، هناك آلاف النماذج الملهمة والمحفزة والكفيلة بإشعال جذوة المعرفة.. وتحفيز الشغف بطريقة ممتعة.
بقلم: السعد المنهالي