من منّا لم يسمع حكايات أفراح الزمن الجميل؛ التي كانت لا تكتمل بدون أن تحييها صاحبة الصوت الجميل “توحة التحتوحة”؛ الفنانة الشعبية الأولى في السعودية؛ وفنانة الصف الأول.
توحة التي كانت وجهة أفراح الأعيان والطبقة المخملية؛ في زمن لم يجُد بمثلها؛ كانت تملأ سمع وبصر الدنيا حينها، ولم يكن صوتها وحضورها الطاغي في المناسبات الإجتماعية؛ هو السبب الوحيد بل لعبت شخصيتها “القريبة من النفس ببساطتها وخفة ظلها؛ ناهيك عن العود التي كانت تُجيد اللعب على أوتاره؛ لتنقل أصابعها للعزف على أوتار قلوب الحاضرين؛ التي كانت تتمايل طرباً لجمال صوتها وأغنياتها.
ولم يكن انتشار توحة فنياً على مستوى مدن الحجاز الثلاث؛ التي رأت الدنيا في مدينة الإحساء شرق السعودية؛ بسبب عمل والدها في ذلك الوقت؛ كمدير للجمارك، وعاشت فيها لمدة خمسة أعوام، انتقلت بعدها لمدينة مكة المكرمة وبقيت فيها لخمسة اعوام أخرى؛ قبل أن يستقر بها المطاف في عروس البحر الأحمر جدة كما قالت توحة لـ “اقرأ” “انتقل والدي لمكة للعمل في وزارة المالية، بعدها انتقلنا لجدة”.
بل كان انتشار على مستوى السعودية بأكملها؛ وكانت البداية بعد أن عادت إلى الحجاز لتبدأ مسيرة فنية ثرية؛ في زمن شهد بداية الأغنية السعودية كما أوضح الملحن السعودي طلال باغر الذي قال عنها “توحة أجادت غناء الموروث الشعبي خصوصاً الدانة الحجازية؛ اليت أبدعت في أداءها بكل أنواعها المجارير والخبيتي وغيرها”.
ولم تكن توحة فنانة صاحبة صوت جميل وأداء تطريبي مميز؛ بل ساعدتها قدراتها على صياغة اللحن وكتابة كلمات كثير من أغنياتها سبباً؛ في انتشارها الفني وقبول الناس لها ولتلك الأغنيات منها أغنية “عاش من شافك يا كامل أوصافك” كما أوضح باغر.
ولم تكتف توحة حينها فقط بالتلحين نفسها وكتابة اغنياتها؛ بل كان التعاون بين فناني ذلك الزمن مثمراً؛ لذلك جاءت بعض اغنياتها بألحان موقعة من درويش الأغنية السعودية فوزي محسون؛ وعازف الكمنجة محمد أمين يحي؛ فيما كان عميد الأغنية السعودية طارق عبد الحكيم أكثر فناني تلك الفترة الذي كان حريصاً على “أن يُغذي الفنانين من ألحانه بشكل كبير”، كما أبان باغر.
وجاء لقاءها بفوزي محسون والشاعرة ثريا قابل؛ في خمس أغنيات منها “دعاني مرة وقلي” واغنية “راعيني ولا تكابر” واغنية “صحيح مني انتهيت”، كما أوضحت “التعاون بيني وبين فوزي وثريا كان جميل؛ إلا أن اجادتي للمجارير التي ساعدني في حفظها هو والدي؛ حين كان لديه كتاب يحتوي على مئات من الدانات القديمة والأغنيات؛ لكن مع الأسف هذا الكتاب استعاره من والدي شخص ولم يرجعه؛ أتمنى لو اجد هذا الكتاب ومستعدة لشرائه!
توحة التي اجادت عزف العود في عمر التسع سنوات كما قالت “كنت آخر العنقود في ترتيب اخواتي الـ 12 ولد وبنت توفى منهم ستة وبقينا خمسة بنات وولد؛ لذلك لم يكن والدي يرفض لي طلب وكنت احب العود فأشترى لي عود صغير تعلمت عليه العزف، وتعلمت الغناء في تلك الفترة، وأجدته أيضاً؛ وهو ما ساعدني بعد ذلك على الإحتراف في سن الستة عشر عاماً، حيث بدأت الغناء في حفلات الزواج والسوابع”.
وتحكي توحة ذكرياتها لأول حفل غنت فيه “كان أول حفل سابع لآل العماري بمدينة جدة، ولد السيدة رتيبة باعشن”، ورغم حصيلة توحة ورصيدها الغنائي الكبير؛ الذي لم يكن يخلو بيت حجازي حينها من أسطوانة مسجلة لها؛ تم تسجيلها في فرح من أفراح أبناءها؛
إلا أن أغنيات معدودة تظل خالدة وساكنة في ذاكرة الأغنية السعودية؛ ولا يكتمل أي حفل زواج أو مناسبة إجتماعية بدون التغني بها؛ ربما تعد أغنية “اشر لي بالمنديل”؛ واحدة من أبرز تلك الأغنيات؛ التي لازال كثير من الفنانين السعوديين وبعض الفنانين العرب يتغنون بها.
هذه الأغنية التي تروي فيها توحة قصة كتابتها بكل بساطة وخفة ظل، وصوت لا يخلو من تعب العمر والجهد؛ الذي تقطعه ضحكتها بقولها “كانت لي صديقة اسمها نور فيومية، وفي فرح ابنتها كنت أغني كالعادة، وحينها كانت الأفراح للفجر، وتُزف العروسة قبل الفجر؛ وبسبب صغر سني؛ كانت دائماً ترافقني أختي الكبرى، التي كانت حريصة على أداء الصلاة حاضرة؛
ومن خوفي أن نتأخر، كنت أُشير لصديقتي نور بمنديل حتى تستعجل زفة العروسة؛ وهي كانت حينها ترتدي فستان كحلي؛ وجلست أدندن بيني وبين نفسي الكلمات؛ إلى أن عدت للبيت وجلست وكتبت الكلمات وصغت اللحن؛ وانتشرت الأغنية”.