بقلم:السعد المنهالي
هل حقاً يجب أن نقرأ لنتمكن من المضي في حياتنا؟ لا أعتقد ذلك، فملايين البشر يمضون حياتهم وينهونها ولم يقرأوا كتاباً قط. غير أني متأكدة أن فعل المضي في الحياة ليس فعلاً إنسانياً، فكل الكائنات الحية تتشارك فيه؛ يمضي النبات والحيوان دورة حياته فيولد أو ينبت ويتغذى ويتزاوج ثم يموت، وهي أحداث تؤكد أنه أمضاها؛ غير أننا وبصفتنا أرقى مخلوقات الله، التي منحها ملكات عقلية، علينا أن نستغلها في مواجهة تحديات الواقع وتطويعه بما يحقق الإنجاز والمجد.. وتأمل الخلق وتدبره على رأس تلك الملكات.
يخبرنا التاريخ الإنساني أن القراءة كإحدى أدوات التدبر لم تظهر إلا بعد عصور عديدة خاض فيها الإنسان تحديات كبيرة على وجه الأرض، واكتشف بسببها الكثير وواجهه، قبل أن يبدأ في تدوينه ليتمكن آخرون فيما بعد من قراءته.
إذن التجربة والمواجهة والفشل والنجاح، هي المهارات التي يجب أن نتسلح بها لكي نتمكن من المضي بنجاح وفاعلية. هذه هي الحقيقة التي تخبرنا بها التجربة الإنسانية على اتساع التاريخ؛ فالخبرات لا نحصل عليها إذ لم تتطور تجاربنا الإنسانية، ولأن الوقت أقصر من أن نكون خبرات ممتدة، فإننا ننجح بتمديدها فقط بفعل القراءة.. فأنشأنا الحضارة.
إن الحضارات لم تنشأ إلا بسبب توجه أصحابها لتدوين إنتاجهم المادي وميراثهم الفكري، ليتناقلوه فيما بينهم وليورثوه لأبنائهم وأحفادهم الذين قرأوه وطوروا عليه بدورهم.
إذن، فصناع الحضارات الحقيقيون هم المطورون الذين استخدموا ما أنتجه من سبقوهم ليبنوا عليه الجديد.
صحيح أن المبتكِر والمخترِع الأول هو من يُحدث الفرق بما أنتجه، ولكن إنتاجه يتوقف عند هذا الحد، فكل ما حدث بعد اختراع المصباح والهاتف لم يخترعه أديسون أو غراهام؛ بل قدمه آخرون قرأوا ما دونه هؤلاء المخترعون من ملاحظات وتجارب وحصر مسببات الفشل وعوامل النجاح، ليكملوا الطريق بدل أن يبدأوا من الصفر.
وكما هو في الإنتاج المادي، تناقلت الأجيال الإنتاج الفكري، ووضع البشر نظماً أفضل للحياة فيما بينهم عبر المؤسسات والقوانين.
لكي نعيش المستقبل قد لا نحتاج أن نقرأ، ولكننا نحتاج أعماراً طويلة وطاقة لا حد لها لكي نصنعه؛ وهذا ما لا نملكه، فكل ما لدينا عمر واحد وطاقة محدودة في ساعات النهار، وهذه الأشياء وحدها لا تصنع مجداً، فما يصنع المجد هو تراكم الخبرة التي لن نجنيها إذا لم نقرأ ما دوَّنه من اجتازوها.