(الحجر على الآباء) قضايا غريبة على مجتمعنا ؛ تحول فيها الأبناء إلى جلادين للآباء ، يستجوبونهم عن كل ريال وهللة ، ويقيمون الحجج والبراهين على سفههم ، توطئة للحجر عليهم ، و(غل )أياديهم عن أموالهم ، للظفر بها ، على حساب مشاعر الأبوة والبنوة التي لا تقدر بأموال وكنوز الأرض، رغم أن الشرع قرر الحجر في حالات نادرة ، وبشروط محددة ، لتحقيق صالح الجميع ؛ آباء وأمهات وأبناء وذوي قربى ومجتمع ، إلا أن العام الجاري شهد رفع 86 قضية حجر من أبناء على آباء وفق تصريح مصدر مطلع بوزارة العدل لـ”البلاد” ، وكانت أكثر القضايا بمنطقة مكة المكرمة بعدد 37 قضية ، بينما جاءت المنطقة الشرقية في المركز الثاني بـ 15 قضية ، ومنطقة الرياض في المرتبة الثالثة بـ 13 قضية.
“البلاد” تفتح الملف ؛ تعرض رؤوس عناوين لبعض القضايا الشهيرة ، وتسأل رجال فقه وقانون في السطور التالية.
• قصص من أروقة المحاكم
أحد أشهر المحامين بجدة، ( لموكلين في قضايا الحجر) قال لـ”البلاد” : في مدينة جدة هناك عائلة صاحبة نشاط تجاري معروف( لا يمكن ذكر اسمها حرصا على السرية)، طلبت ابنها وشقيقها، رفع قضية حجر على والدهما الذي بلغ من العمر 90 سنة ، وهو متزوج من زوجتين ، بذريعة سيطرة إخوتهم الكبار من الزوجة الأولى سيطرة كاملة على أبيهما ، وتحكمهم في شركات يتجاوز رأسمالها ملياري ريال ، فضلاً عن العقارات والأموال والسيارات والمنقولات، ومنع الأخوة الكبار الأب من الإنفاق على الشقيقين من الزوجة الثانية، مما دفعهما للجوء لمحكمة الأحوال الشخصية، و طلب توقيع الكشف الطبي على الأب للحكم بالحجر عليه،
ويضيف المحامي: ورغم أن التقرير لم يجزم أو يثبت بشكل قاطع معاناة الأب من أي مرض عقلي ، إلا أن القاضي رأى من خلال مناقشة الاب أن هناك نوع من الإضرار بالأبناء الصغار من الزوجة الثانية، وحكم بالحجر وتم التنفيذ ، لكن ما زالت المعركة مستمرة بين الإخوة .
ويواصل المحامي الشهير: في مدينة جدة أيضا ، تكررت قضية الحجر مع عائلة ذات نشاط تجاري كبير، تعود أصولها إلى( حضرموت)، وكانت البداية خروج الأب البالغ من العمر 80 سنة من البيت واختفاءه لمدة أسبوع ، ولم يجدوه حتى بعد تقديم بلاغ للشرطة، ووجده أحد معارفهم في بيته القديم الذي انقطع عنه أكثر من 30 سنة، و وتبين أن الأب أصيب بـ(الزهايمر)، وأن المرض اثر عليه بحيث لا يذكر أي شيء عن الحاضر والماضي القريب، وإنما يعيش في الماضي البعيد وأيام شبابه، وباتفاق بين الإخوة وأفراد العائلة أقدموا على رفع قضية حجر على والدهم ، على أن يكون الواصي عليه ابنه الأكبر.
• “فتنة النساء”
كما شهدت أروقة المحكمة العامّة بالرياض مؤخرًا، واحدة من أصعب قضايا الحجر، رفعها ابن على والده، وطالب فيها بـ(الحجر على والده لسفهه)، واتهم الابن أبيه بتبديد أمواله، وتحميلهم ديون، ووجوده خارج المملكة بشكل دائم، وابتلاء الأب بـ(بفتنة النساء)، إلا أن الأب ردّ بكشف عدة وقائع تثبت سوء نصرف ألابن ووجود خلافات سابقة بينهما منها؛ بيع الابن 52 تأشيرة باسم مؤسسة الأب، مستغلًا الوكالة الشرعية الممنوحة له، بدون علم الأب، مما أضر بمصالح المؤسسة، وأكد الأب أنه بمناقشة ابنه بشأن بيعه للتأشيرات، هدده الابن بالقتل وتلفظ عليه بأسوأ الألفاظ التي لا تليق بابن عاقل ، وأضاف الأب أنه في العشر الأواخر من رمضان، أوقفت الدوريات الأمنية ابنه لتعاطيه المخدرات، وهو ما أثبته الكشف الطبي عليه، وقررت المحكمة رفض دعوى الأبن بعد يقينها من صحة موقف الأب، وورود تقرير طبي، أكّد السلامة العقلية والنفسية للأب.
30 % من حالات الحجر سببها زوجات الأبناء
• وقضايا أخرى
وفي قضية شهيرة، مليونير يحجر عليه أبناءه لاعتقادهم أنه مبذر، ومليونيرة ستينية يحجر عليها أبناءها للسبب نفسه ، بل وأضافوا أنها وصلت لمرحلة الخرف ، ولديها ضعف شديد بالذاكرة ، ومنعوها من التصرف بأموالها ، لكن القاضي أنصفها وأبطل دعوى الأبناء؛ بعدما ثبت لديه تمتعها بكامل قواها العقلية وحواسها الخمسة، ومليارديراً حجر عليه أبناءه بعدما لاحظوا صرفه 50 ألف ريال يوميا في أوجه الخير، واستطاع الأبناء إيقاف المبالغ التي يدفعها والدهم للآخرين وشددوا الحصار عليه حتى استسلم لأمرهم ، واكتفى بما يقدمونه له من مال قليل، رغم السيولة المالية الضخمة التي يملكها في البنوك ؛ هذه نماذج لحالات حجر تعرض لها آباء وأمهات على يد أبناءهم بحجة التبذير ، وخوف الأبناء من فقدان الأموال التي في الأصل جمعها الآباء والأمهات بعرقهم وجهدهم ، أو اكتسبوا جزءاً منها بالإرث.
الحجر.. “كسر نفسي”
يقول المستشار النفسي والأسري جزاء بن مرزوق المطيري ، إنه إذا كان الشخص الذي يتم الحجر عليه غير قادر على إدارة شؤون حياته العملية والمالية والأسرية ، وغير مسؤول عن تصرفاته؛ بحيث أصبح يبذر ماله ويصرفه في غير موضعه الصحيح بما لا يتفق مع الحكمة والشرع، أو مصاب باضطرابات نفسية و سلوكية أو عقلية سببت له معاناة إكلينيكية ملحوظة ،أو اختلال الوظائف الاجتماعية والمهنية وغيرها، يكون الحجر عليه واجب؛ حفاظا على نفسه والآخرين من الضرر و حفظا لأمواله من الضياع .
وأضاف المطيري ، أما إذا كان الشخص الذي يحجر عليه متزن نفسيا وجسديا وفي كامل الأهلية ومدرك لجميع تصرفاته وسلوكياته ، فإن الحجر عليه يكون بمثابة الكسر النفسي ، وله أثار نفسية سلبية كبيرة منها؛ الاكتئاب والحزن الشديد على تصرفات من كان يعتبرهم سنده وقوته عندما يصل إلى سن الكبر ، إلى جانب سيطرة مشاعر البؤس والكآبة وانعدام المرح والسعادة عليه.وأكد المطيري على أن هذا الجانب يعد نوعا من أنواع العقوق لأن من البر رضاء الوالدين والسعي لإسعادهم بكل الطرق .
• ( الزهايمر) .. سبب رئيسي
ويقول الدكتور إبراهيم الأبادي ، المحامي والمحكم المعتمد من وزارة العدل وأستاذ القانون الجنائي بجامعة دار الحكمة ، إن قضايا الحجر تحدث غالبا داخل العوائل التجارية أو ذات الثراء ، وفي حالات معينه ترفع الدعوى ضد الأب أو الأم ، بعد الإصابة بمرض العصر(الزهايمر)، وحدوث تبديد للأموال تحت تأثير المرض ، أو بسبب السفه، وينظر المجتمع إلى هذه القضايا كنوع من أنواع العقوق ، حيث تنقسم تلك القضية الى قسمين ؛ قسم يريد الحفاظ على ميراث العائلة في حالة إثبات المرض العقلي ، وقسم يريد الاستفادة من الميراث في حياة والديه ، مما يسبب صراع داخل العائلة والتشكيك في القوى العقلية للأب أو الأم والاتهام بالسفه.
• ليس لها وقت محدد
ويشير كتور الأبادي إلى أن قضايا الحجر ليس لها وقت محدد قبل الحكم فيها، حيث يحتاج القاضي الى مناقشة المطلوب الحجر عليه، والحصول على تقرير لجنه طبية عن حالته العقلية والنفسية، ومن الممكن أن يستغرق اعداد التقرير من شهر إلى شهرين أو3 أشهر ، وفي العموم تأخذ القضية وقتها خلال سنة ، وتعتبر هذه المدة ، مدة طويله في مثل هذه القضايا ، وفي خلال السنة لا يمكن توقع ماذا سيحدث بين الأسرة، من صراعات وأضرار وانشقاقات.
• رفع الحجر
وإذا حكم القضاء بالحجر، يعين ولي على المحجور عليه بالاتفاق مع أفراد العائلة، أو يعين حارس قضائي على مصالح الشركة والأموال ، وإذا كانت دعوى الحجر بسبب مرض أصاب المحجور عليه، يكون رفع الحجر بتقرير طبي يثبت الشفاء من المرض، تقدمه اللجنة الطبية للقضاء ، الذي بدوره يصدر حكم رفع الحجر ، وتعود للمحجور عليه حقوقه في التصرف بأمواله.
• الشركات العائلية
يحق للأب أن يفصل أبنائه من العمل لإعادة ترتيب مصالح الشركة في حال كان يتمتع بكامل قواه العقلية ، ولا يحق لهم أن يرفعوا قضية حجر على أبيهم كونه المتصرف بأمواله ، وبالتالي يجب على الأبناء طاعته وبره ، حتى وإن منعهم من الاستفادة بالعمل في الشركة أو بالمال كونهم بالغين عاقلين ، ولا يملكون الحق في الاعتراض على تصرفات وقرارات والدهم، فيما يراه مصلحه للجميع وليس هناك ظلم للأبناء.
وزارة العدل: 86 قضية في عام
وصرح مصدر مطلع بوزارة العدل لـ”البلاد” ، بأن محاكم المملكة استقبلت خلال العام الجاري 86 قضية حجر، وكان عدد القضايا في كل منطقة من مناطق المملكة كالتالي :
منطقة مكة المكرمة 37
المنطقة الشرقية 15
منطقة الرياض 13
منطقة عسير 8
منطقة حائل 6
منطقة المدينة المنورة 2
منطقة جازان 2
منطقة الباحة 1
منطقة الجوف 1
منطقة القصيم 1
• السفه والتبذير واختلال العقل
يقول الشيخ سعيد الغامدي ، إمام مسجد السلام ، أن قضايا الحجر بشكل عام في المملكة قليلة ، مقارنة بالقضايا الأخرى التي تنظرها المحاكم ، وأضاف أن الحجر على الآباء أمر مشروع إذا توافرت شروطه ، والقاضي الذي ينظر دعوى الحجر يتثبت من كافة الشروط الواجب توافرها لإصدار حكم شرعي بالحجر على الأب أو الأم او القريب ، إذا لم يكن له أبناء وله ورثة ، وأشار الغامدي إلى أن ؛ السفه والتبذير واختلال العقل ، أبرز شروط الحجر على الإنسان.
(أبناء وآباء ) .. تحولهم قضايا الحجر لـ ( جلادين وسفهاء)
• الحجر في نقاط
ويمكن تلخيص أبرز ما يخص الحجر في النقاط التالية.
– الحجر يعني منع الإنسان من التصرف في ماله.
– كل من له مصلحة، ومن كان معنيا برعاية المحجور عليه، يحق له طلب الحجر.
– شُرع لمصلحة المحجور عليه أو الغير؛ الحالة الأولى؛ وهو الحجر بـ “جنون وصبي وسفه “، أما الذي للغير فهو حجر بسبب” الافلاس للغرماء والراهن؛ للمرتهن في المرهون، والمريض للورثة في ثلثي ماله”.
– لا يتم الحجر إلا بأمر من القاضي في محكمة الأحوال الشخصية، بدعوى ممن له مصلحه في الحجر، ولا يلزم ان تقام من جميع الورثة كما يعتقد البعض.
– يتثبت القاضي من الشروط وصحة الوقائع، وأن الدعوى صحيحة وليست كيدية للاعتداء على مال المحجور عليه، والتثبت يتم بكل الطرق الممكنة، فإن اطمئن القاضي لاحتمالية صحة الدعوى، أحال المطلوب الحجر عليه للمستشفى المختص؛ للتثبت من الحالة الذهنية، وإذا جاء التقرير الطبي بأن المطلوب الحجر عليه لا علة فيه ردت الدعوى، وإن أكد وجود العلة، قرر القاضي: من يكون وليا عليه، ويمكن أن تكون الولاية لشخص أو أكثر، أو لمجلس ولاية ، كما جرى مع أحد رجال الأعمال سابقا.
– يحدد القاضي أجرة المثل لمن يتولى على المحجور عليه؛ لقاء رعايته والقيام بأمره.
– لا يقبل أي تصرف للمحجور عليه؛ من بيع أو شراء أو تبرع، إلا بإذن الولي، وفق ما حدد له القاضي من صلاحيات، وإلا كان الأمر كله للقضاء، والمستقر في الفقه والقضاء بأنه؛ لا يجوز للولي أن يتصرف في مال المحجور عليه، إلا على “النظر والاحتياط”، وبما فيه “حظ له واغتباط” ، لحديث: لا ضرر ولا ضرار.
– إذا قصر الولي أو أهمل يحق لمن له مصلحة إقامة دعوى لعزله أو محاسبته.
– في حال زالت أسباب الحجر، للمحجور عليه إقامة دعوى إثبات رشد، تنظرها المحكمة وتحكم بأثبات رشده، ويعود له حق التصرف في أمواله على النحو الذي يراه مناسباً.
86 قضية بالمملكة في عام.. (مكة والشرقية والرياض).. أكثر المناطق رفعاً للقضايا
الإفتاء: يجوز على السفيه والمجنون
وقد أكدت دراسة للإفتاء في المملكة، أن حق الوالدين في الإسلام عظيم، وبرهما من أعظم القربات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وحجر الأولاد على أبيهم في التصرف بأمواله عقوق وظلم، ما لم يكن سفيهًا أو مجنونًا، وإذا كانت على أبيهم ديون حالة لا تفي أمواله بسدادها، فلأهل الديون طلب الحجر من الحاكم، ولا يجوز للأبناء طلب الحجر لأجل ذلك.