يقع كل من يفكر في الاقتراب من شخصية “جميل الحجيلان” في حيرة وصفه؛ فهل يبدأ بمسيرته كأول وزير للإعلام وواضع خططه واستراتيجياته٬ أم وزير الصحة الذي أدار منظومة المستشفيات وتابع مشاكل المرضى وهو الذي تخرج في كلية الحقوق وليس الطب٬ أم مسيرته كسفير في عدد من سفارات المملكة٬ أم إدارته لمجلس التعاون الخليجي؛ والحقيقة أن كل منصب كان يشغله كان يضفي عليه من قسمات روحه٬ ويدمغه ببصمته الخاصة.
نسمات القصيم
ولد جميل إبراهيم الحجيلان في بريدة عام 1929، ونشأ وسط أسره تجارية احترفت التجارة بين نجد وفلسطين وبلاد الشام والعراق ومصر، في رحلات على الجِمال اشتهرت شعبيًا وثقافيًا باسم «تجارة العقيلات» التي كُتب الكثير عنها، والحجيلان أسر عدة فصّلها محمد ناصر العبودي في كتابه الحديث «معجم أسر القصيم» الذي صدر الجزء الأول منه عن أسر بريدة فقط، في 23 مجلدًا.
كان”جميل” طفلًا يراقب جموع الباعة ومجاميع البيع واجتماعات الغلة في شهور عصيبة وبين أجواء متقلبة، فنمت في ذاكرته دافعية عميقة٬ وتعتقت روحه بنسمات القصيم ونسائم الشام، فأعتق روحه من رفاهية متاحة ليتحول إلى مكافح ومنافح، باحثًا عن استفسارات عدة، ملتحفًا بنصائح أسرية متسلحًا بإرشادات عائلية منحته «حب الخير» و«عشق العلا».
الشاعر القانوني
كانت دراسته الأولية في دير الزور بسوريا، ومن أساتذته علي الطنطاوي؛ الشيخ الذي ظل الحجيلان يبدي فخرًا بالتلمذة على يديه، وكان التلميذ مولعًا منذ صغره بالأدب والشعر، فلا غرابة أن تظهر لدى الحجيلان موهبة شعرية مبكرة ظل الكثيرون لا يعرفون إلا قليلًا عنها، تبدى ذلك في قصيدة وطنية عروبية كتبها في أعقاب حرب فلسطين عام 1948، ونُشرت في حينه بعنوان: «صوت فلسطين» قال في مطلعها:
«يا هزار الصباح ردد ندائي… وارْوِ للشرق محنتي وبلائي»..
والحديث عن ولع الحجيلان بالأدب وضلاعته في اللغة يكشف لعارفيه، وهو يتحدث، عن سر العبارة المنتقاة التي تميز أحاديثه ومقالاته ومراسلاته، بكلماته الراقية وأسلوبه الذي يقود إلى فكره ومقاصده، في ملمح ظل يلازم شخصيته؛ دبلوماسيًا وإعلاميًا وإداريًا.
أضفى عشقه للأدب على تخصصه اللاحق في القانون وعلى شخصيته، مهارة في المنطق وذوقاً بالمرافعة، وحجة في المواقف السياسية والاجتماعية، وهو الذي يستذكر مفتخرًا بأنه خريج مدرسة د. عبد الرزاق السنهوري؛ أحد أعلام الفقه الدستوري والقانوني في مصر والعالم العربي٬ وكان تضلعه في علوم العربية واشتقاقاتها مكّنه من إجادة الفرنسية والإنجليزية، كتابة ونطقًا وتحدثًا.
الدبلوماسية أولًا
يقول في مذاكراته بعد أن أنهى دراسته بالقاهرة٬ في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا):”وصلت إلى جدة في اليوم الأول من يناير 1951. وفي اليوم الثاني اصطحبني وكيل وزارة الخارجية السعودية آنذاك المرحوم طاهر رضوان، لمقابلة الأمير فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، وزير الخارجية آنذاك، للسلام عليه وتوقيع قرار تعييني. وكان راتبي حينها 385 ريالًا سعوديًا. وكان عدد موظفي وزارة الخارجية في جدة- دبلوماسيين وإداريين- لا يزيد عن الـ 30، يعملون في مبنى صغير من طابقين في شارع المطار القديم في جدة، زال واختفى بعد التطور العمراني الهائل”.
سيرة دراسية عانق فيها الحجيلان الغربة وتعانق مع أمنيات وطنية نادته كونه من أوائل المتعلمين حينذاك٬ عمل دبلوماسيًا، وعمل في بعض السفارات في الخارج ثم توجه للإعلام، حيث عُيِّن مديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر بمرتبة وكيل وزارة وعُيِّن كأول وزير إعلام سعودي، وفي عهده أقيمت شبكة الإذاعة والتلفزيون، وصدر نظام المؤسسات الصحافية٬ ولمست القيادة كفاءته وعقليته فاستعانت به وزيرًا للصحة بجانب الإعلام، ثم تفرغ لوزارة الصحة عام 1974، وعُيِّن كأول سفير سعودي في دولة الكويت، وسفيرًا لدى ألمانيا الاتحادية ثم سفيرًا في فرنسا، ثم عُيِّن أمينًا عامًا لمجلس دول التعاون الخليجي. وحصل على وسام الكويت ذو الرصيعة من الطبقة الممتازة 2002.
رجل الدولة
عاصر الحجيلان ملوك السعودية، بدءًا من الملك عبد العزيز الذي أدرك العمل في أواخر عهده موظفًا في وزارة الخارجية، مستعيدًا تلك المهمة التي جاءت به بُعيد تخرجه إلى الرياض، مرافقًا ومترجمًا لمسؤول إسباني رفيع قابل الملك في أوائل الخمسينيات الميلادية.
ثم التحق بالعمل الدبلوماسي في السفارة السعودية في طهران (مع السفير حمزة غوث)، وانتقل بعدها للعمل في السفارة بكراتشي عاصمة باكستان آنذاك (مع السفير محمد الحمد الشبيلي)، ولفتت براعته الثقافية الأنظار إليه، فاختير عام 1961 مديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر خلفا لعبد الله بلخير، في فترة غلب عليها عدم الاستقرار في ميدان الإعلام، وبعد 8 أشهر عُيّن سفيرًا لدى الكويت فور حصولها على الاستقلال، وكان أول سفير عربي وصل إليها وسمي بالتالي عميد السلك الدبلوماسي، وبعد عام ونصف العام عين أول وزير للإعلام (مارس1963) في حكومة رأسها الأمير فيصل أواخر عهد الملك سعود.
وزير الإعلام
بدأ دبلوماسيًا بوزارة الخارجية.. وعُيِّن كأول وزير إعلام سعودي.. ثم وزيرًا للصحة.. وبعدها سفيرًا ثم أمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي
ورغم أنه أمضى نحو 40 عامًا في المجال الدبلوماسي، بينما لم يقضِ بالمقابل في الإعلام سوى 8 أعوام (1963 – 1970)، إلا أن اسمه ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإعلام، فقد مارس العملية الإعلامية في فترة حرجة داخليا وخارجيا، وأبدع في الزمن الصعب بما يستلزم صفحات، ولم يختلف أحد على أدائه الإعلامي المضيء إلا فيما يتصل بتقدير الإجراء الذي اتُّخذ في عهده بتحويل ملكية الصحافة من مؤسسات فردية إلى مؤسسات أهلية جماعية عام(1963)؛ ونظر الفريقان إليه من زوايا متغايرة، وما يزالان مختلفين.
والمفارقة الطريفة أن الحجيلان كان يكتب للإذاعة قبل أن يتولى مسؤولياته الإعلامية، وأنه إبان عمله وزيرًا للإعلام كتب تحت اسم مستعار بعض التعليقات السياسية، نشرها في كتابه «الدولة والثورة»، الدار السعودية للنشر 1967، في 80 صفحة.
في عهده الإعلامي، الذي أدرك فيه عامًا ونصف العام من عهد الملك سعود، و6 أعوام من عهد الملك فيصل، دُشّنت إذاعة الرياض التي خُصّت بمرسلات عملاقة، وافتتح التلفزيون في 7 محطات، وشهد الإعلام الخارجي طفرة نوعية مكثفة قوامها الأفلام والكتب الإعلامية، وصارت المملكة فيها قبلة لزيارات أبرز رجالات الصحافة العربية والأجنبية، وانتقلت الوزارة إلى العاصمة، وحظيت وسائل الإعلام بفرص غير مسبوقة من برامج للتدريب جعلت الشاب الفني السعودي يقف بكفاءة في ذلك الزمن المبكر بمحاذاة الكفاءات الوافدة، وفي عهده أيضا كان للمرأة أول حضور في برامج الإذاعة والتلفزيون.
للصحة نصيب
مر الحجيلان بعد وزارة الإعلام بفترة انتقالية من 4 سنوات وزيرًا للصحة (1970 – 1974) استرعى خلالها انتباه المجتمع لفكرة الوزير الإداري في مقابل الوزير التكنوقراط، وكان أول من تبنى كادرًا لتفرغ الأطباء في المصحات الحكومية. والتي تعد من أهم المحطات المهمة في حياته العملية٬ منها خلفية تعيينه كأول وزير صحة غير طبيب، والتفويض الذي منحه له الملك فهد في القضاء على الملاريا في المنطقة الشرقية٬ وخطاب طلب إعفائه من وزارة الصحة للملك فيصل إضافة إلى الانتقال من الإعلام إلى الصحة وتفرغ الأطباء وتصميم نماذج المستشفيات والابتعاث والإدارة الصحية.
في عهده.. كان للمرأة أول حضور في برامج الإذاعة والتلفزيون
20 عامًا
ثم بدأ مجددًا رحلة مع الدبلوماسية أخذته إلى ألمانيا لمدة عامين، وإلى فرنسا 20عامًا، مارس خلالها هوايته مع السياسة والإعلام، بلغة فرنسية رفيعة منتقاة نافس فيها أقرانه السفراء من الدول غير الفرنكوفونية، وطبق خلالها مدرسة دبلوماسية واضحة قوامها الحزم الإداري والانضباط في عمل السفارة، والتأكيد على تقوية الصلات مع رموز البلاد التي أوفد للعمل على كسب صداقتها، من دون إغفال رعاية المواطنين الذين خصص لخدمتهم مساعدًا متفرغًا له بدرجة سفير.
ويقول الحجيلان عن تلك المرحلة: “إن بقاء السفير طوال هذه المدة هو اعتراف وتقدير لأدائه، وثقة قيادة بلاده به. وعلى الرغم من اختراقنا المداخل المغلقة في المجتمع الفرنسي، واختلاطنا بهم وإقامة علاقات اجتماعية معهم، فإننا كنا نشعر دائمًا، أنا وزوجتي، بأننا ننتمي إلى عالم غير عالمهم، وأن معرفتنا بلغتهم وثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم، لم تكن كافية لإزالة الاحساس بالغربة ونحن نعيش في فرنسا ظروف الجاه والرخاء، وأن الوطن الآمن المستقر، هو أغلى ما يسعد به الإنسان”.
ويضيف:” تعلمت من فرنسا أن الإنسان أغلى شيء في الوجود، وأن الوقت أغلى من الذهب، وأن أداء الواجب يتمّ في صمت، وأن أمن الدولة حرمة لا تمسّ، وأن القانون سيد الجميع، فالسنوات التي قضيتها أنا وزوجتي في باريس، كانت حافلة بالعمل السياسي، مع معايشة متواصلة للحياة الفكرية والثقافية والفنية، لذلك اعتراني شعور اشبه بالاغتراب وأنا أودع باريس. ولم يخفف من قوة هذا الشعور، إلا قناعتي وفرحتي بما انا مقبل عليه من عودتي إلى وطني العزيز وبدء عمل جديد٬ فقد رميت الـ 20 عامًا التي عشتها في باريس وراء ظهري، وعدت كما ذهبت، وكما كنت عليه دائمًا، سعوديًا خليجيًا معتزًا بعروبتي وإسلامي”.
وفي عام 1996، تحول الحجيلان نحو عمل سياسي من نوع آخر، عندما رشحته السعودية أمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي، في نقلة قربته من وطنه بعد طول غياب وجعلته على صلة مع صنف مختلف من الزعامات، نقلة منحها ما استطاع من خلاصة الخبرة والتجارب السابقة.
تقاعد وترحال
وربما كان من حسن الحظ أن تقاعده عام 2002 جاء في عمر مناسب للاستمتاع بالترحال والتفرغ لكتابة المذكرات، فصار يوزع وقته بنظام يأنس فيه بأحفاده، ويلامس محرك الإنترنت للبحث والتوثيق، ويتابع كتابة مذكراته، كما تفرغ لأول مرة لحياة خاصة حافلة بالواجبات الاجتماعية، يشاطر زوجه أم عماد (كرم الوراق) نشاطها الخيري، ويمني نفسه بأن يدون جهدها التطوعي، وهي التي شاركته يُسرة الحياة وقساوتها، ورافقته رحلة العمر منذ تزوجا أوائل الخمسينيات الميلادية، وقامت على شأن بيتهما وتربية أولادهما (عماد وفيصل ووليد ومنى) فضلًا عما تقتضيه الالتزامات الدبلوماسية من واجبات.
كتابات الستينيات
كان للحجيلان كتابات في فترة الستينيات من القرن الميلادي الماضي٬ يعيد قراءاتها الآن بقوله: “في أعوام الستينيات كانت المملكة العربية السعودية، بقيادة الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز- وكان الملك فهد آنذاك وزيرًا للداخلية ونائبًا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء، تقف بصلابة منقطعة النظير أمام عدوانية اليسار العربي عليها، ودورانه في فلك الاتحاد السوفيتي دورانًا لم يكن يخدم إلا مصالح موسكو.
يقول الحجيلان عن ذلك :” كان الملك فيصل رحمه الله، يرى رؤية الواثق انحدار الأمور في العالم العربي إلى الهاوية، وعجزنا عن ايقافه. وكلما ارتفع منا صوت جريء يدعو إلى حوار هادئ، وصفونا بالرجعيين والضلوع مع الاستعمار. وتلك المقالات كانت عرضًا موضوعيًا لسياسة بلادنا، ودفاعًا عن هذه السياسة، وتصديًا لشعارات التضليل التي كانت تستهين بكل القادرين على فهم حقائق الامور.
كانت مقالات تتحدث عن الثوابت في سياسة السعودية، ومكونات هذه السياسة في الداخل والخارج؛ الحوار الهادئ ونبذ الشعارات المضللة، ومقاومة السطو على الحكومات الشرعية على ظهور الدبابات في ليل حالك، والصدق والشجاعة في المفاتحة، النيّات النزيهة، معرفة ظروف الآخرين وتقديرها، البعد عن المزايدات السياسية المخادعة عن قضية فلسطين.
ويختتم جميل الحجيلان:” ولم ترد في تلك المقالات كلمة نابية واحدة، فهذا أمر غير وارد في سياسة بلادي ولا في خلق القائمين عليها. وحين أعود بعد أكثر من 30 عامًا لقراءة هذه المقالات، أرى أن كل ما جاء فيها كان نبضًا صادقًا معبرًا عن الخوف من سياسات عربية خاطئة ومغامرات رعناء أدت بنا إلى سوء المصير”.