«كيف تصنع ذلك بنفسك.. أتريد أن تموت!» هكذا وجهت إحدى السيدات حديثها إلي صبي يافع وجدته يجرب تبغاً في محل لبيع «المداويخ».. لم يرُق للصبي حديث المرأة فرد عليها أن لا شأن لها به. لم تتراجع السيدة، إنما أخبرته أن شقيقاً لها توفي بمرض السرطان بسبب ذلك. كما زجرت صاحب المحل كونه يخالف القانون ببيعه تبغاً لطفل، وعندما أبدى عدم اكتراثه بها، همت بالاتصال للإبلاغ عن اسم المحل ومكانه وشرح الحادثة. تخبرني السيدة أن الصبي رد بأن التبغ ليس له وإنما لشقيقه.. ثم غادر المحل بهدوء، فيما أخذ صاحب المحل يعتذر ويعد بعدم تكرار ذلك!
قد لا يتغير شيء إزاء موقف السيدة، ولكن أيضاً قد يتغير كل شيء، كأن يشعر الصبي بخوف من أن يكون له نفس مصير شقيق السيدة فيتراجع تماماً عن هذا السلوك، أو قد يراجع البائع نفسه خوفاً من المخالفة القانونية فيكون أكثر حزماً تجاه الصغار. قد لا يتغير شيء، وقد يحدث شيء عظيم في زمن آخر، وهذا تماماً ما دفع السيدة لهذا الموقف الذي قد يتصرف أغلبنا تجاهه بلا مبالاة. تقول السيدة: فعلت ما أتمنى أن يفعله أحدهم لو رأى ولدي يصنع الأمر نفسه. في حالات كثيرة سيُعتبر هذا التصرف تدخلاً في حريات الآخرين، وتبجحاً على أصحاب الأعمال، وغيرها من الصفات التي أصبحنا نتجنبها بدعوى أننا متحضرون، نقدر اختلاف الآخرين عنا! ولا أدري لماذا لا نتساءل هل لهذه الصفات الإنسانية «الراقية» حدود يجب أن تقف عندها ونتوقف عن التفكير بها، أم أن الأمر في المطلق؟!
الحياة في مجملها عبارة عن مواقف متراكمة نخوضها، سواء كنا أبطالاً رئيسيين فيها أو أطرافاً مؤثرين، أو شهوداً مراقبين من بعيد لمواقف أناس غيرنا. أغلبنا يعيش أطول فترات حياته في الحالة الأخيرة مكتفياً بدور المراقب والشاهد لما يحدث حوله. الحقيقة أنه دور مريح لا إلزام فيه ولا تبعات عليه، غير أن صناع الحياة هم الأشخاص الذين قرروا أن لا يقضوا أعمارهم في موقف الشاهد بلا فعل. أصحاب المواقف هم صناع الحياة الحقيقيون، وهم يختلفون كثيراً عمن يتجاوبون مع حياتهم حتى لو قاموا بذلك بشكل مميز وناجح، كونهم مجبرين على ذلك، وهم على خلاف أولئك الذين يختارون بأنفسهم الخروج من دائرة الهدوء والاطمئنان ورد الفعل إلى دائرة الفعل الذي ليس لاحتمالاته حدود.