مجلة اقرا

طه الصبّان فنان إحياء التراث وتعزيز الهويه

بقلم– آمال رتيب
بين جيل العمالقة والرعيل الأول للفن التشكيلي، استطاع طه صبان بموهبته وعبقريته في الفن واستخدام الألوان، أن يصعد نحو القمة بكل قوة٬ يفتح طه الصبّان نوافذ الحنين إلى الماضي، على الرؤى الآتية من الذاكرة البصرية المتعلقة بمكان الطفولة والمراهقة، يتأمل في تراث الحجاز الكامن في المدينة المكرمة، حيث الأصالة والألفة ومقصد الحجيج، ومقر العيش الرحيب والعادات والتقاليد العريقة، بكل ما تحمله من الانتماء المحلي السعودي، هذه الروابط التي شكلت في أعمال الصبّان عالمًا متكاملًا مليئًا بالفرح والبهجة والإشارات والمفردات.
والآن وإن كان طه صبان بسبب ظروفه الصحية لا يستطيع التواصل المباشر مع محبي فنه في قاعات العرض٬ إلا أنه اتخذ من موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك معرضًا دائما لأعماله٬ يقلب فيه الذكريات ويضيف المزيد من الصور، التي تنقل حتى كواليس مرسمه ولوحاته.
جذور

طه الصبّان من مواليد مكة المكرمة (عام 1948)٬ رائد من رواد الحداثة العرب الكبار، من رواد الرعيل الثاني في الحركة التشكيلية السعودية بعد جيل عبدالحليم رضوي ومحمد السليم وصفية بن زقر ومنيرة موصلي.
أنشطة
أسس الصبان مع زملائه بيت الفنانين التشكيليين برعاية الدكتور سعيد فارسي وتولى رئاسته في إحدى الفترات، وتبّوأ عدة مناصب رسمية وترأس أكثر من جمعية وأشرف على «أتيليه جدّه»، كما شارك في العديد من المعارض والفعاليات داخل وخارج المملكة، وكانت أهم مشاركاته في معرض اليورو ارت بسويسرا برعاية مؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع٬ وأقام معرضًا شخصيا لأعماله في قاعة اليونسكو ببيروت وخان الإفرنج بصيدا، كما عرضت أعماله في بينالي القاهرة الدولي، وبينالي الشارقة الدولي وغيرها٬ وأقام معرضين شخصيين في قصر الفنون المصري بدار الأوبرا، على هامش معرض إبداعات سعودية معاصرة الذي نظمه أتيليه جدة للفنون الجميلة٬ وله مقتنيات في عدة مطارات سعودية ومتاحف عربية، لا سيما في متحف معهد العالم العربي في باريس، ومشاركات في بينالات عربية ودولية.
جوائز

وحقق الصبان جوائز مهمة من خلال هذه المشاركات، منها جائزة بينالي طهران الدولي وجائزة بينالي اللاذقية الدولي، وعلى المستوى المحلي حقق جائزة الفن السعودي أكثر من مرة، وجائزة أبها الثقافية وجائزة الجنادرية الأولى.
بدايات

لا يتردد طه الصبان في رواية لقائه بالفنان الراحل عبدالحليم رضوي، عندما علم بوصوله إلى أرض الوطن منتصف الستينيات، وعندما حان الموعد قدم الصبان رسمه لبورتريه يصور فيه الرضوي هدية لقائهما الأول، يقول الصبان أنه سيظل يدين للرضوي بالكثير، فقد أعانه على أن يبقى متيقظًا تجاه خصوصيته الجمالية، وتفوقه في المحترف المحلي في بدايته المبكرة، وأول مواقف الرضوي بدأت عندما وضع اسمي ضمن المشاركين عام ١٩٦٧ ٬ في أول معرض يقام في قاعة مركز الفنون الجميلة، باعتباره أول مركز للنشاط التشكيلي في البلاد وفي مدينة جدة تحديدًا.
رحلات

ثم سافر الصبان إلى بيروت عام ١٩٦٦، عندما كانت قبلة العالم العربي ومنبر المثقفين والمبدعين على مختلف أشكالهم، ما عزز إحساسه بأهمية الفن، وإبان عودته في العام نفسه قرر دراسة الفن في روما حيث كانت قبلة الفنانين في العالم، غير أنه عاد قبل أن يستكمل حلمه بسبب مرض والده، الذي توفي بعد مرضه مباشرة، غير أن الصبان عاد وأستأسد لموهبته، عندما سافر إلى بريطانيا لدراسة إخراج برامج التلفزيون، فمنحته تلك الرحلة أملًا ليصبح فنانًا، في بريطانيا عرف الصبان أن الفن ضرورة حضارية في حياة مجتمعها، فحرضته تلك الثقافة على إنتاج مجموعة من الأعمال الفنية، التي سجل بها إقامة أول معارضه في مدينة كوليشيستر عام ١٩٧٥، ثم تلاه معرضًا آخر في مدينة جلاسكو عام ١٩٧٦.
علاقات لونية

استطاع الصبان أن يؤسس جمالية فنية خاصة به، قائمة على استحضار الموروث التراثي القديم بأسلوب تعبيري، يقوم على اختصار الأشكال بما يوحي بإيماءاتها وحركتها في الفضاء، ليضعها في سياقات تأليفية ماهرة تستمد قوتها من جذوة العلاقات اللونية الحارة والباردة والمتناغمة والمتناقضة، بما ينسجم مع المفاهيم الحداثية، التي تخوض عميقًا في مسائل التجريد اللوني. شغلته مسألة العودة إلى استلهام التراث وقضايا الهوية والانتماء إلى الذاكرة المكانية المفقودة، التي شكلت قاسمًا مشتركًا مع هواجس الفنانين العرب المحدثين، واستطاع فن طه الصبّان على امتداد مراحله وتنوعات تجاربه أن يقدم أجمل صورة عن الموضوع التراثي في قالب جمالي محدث.
رسام المرأة

وتأتي شخوص الصبان في لوحته من أغوار أزمنة قديمة دون أن تعلن عن تفاصيلها وجزئياتها، فهو ليس معنيًا بتلك التفاصيل وبمحاكاة واقعها المحيط، بقدر ما يمنحها جماليات شكلية مختزلة، تستطيل الشخوص في عمله نحو الأعلى وكأنها ترسم حدود اللوحة باستطالتها، يخرجها من موضوعيتها المعتادة ويلبسها أجواء أسطورية مبتكرة٬ والصبّان هو رسام المرأة بامتياز، رسمها منفردة بأزيائها الشعبية، ورسمها في الجماعة على ضوء المصابيح في خيام الليل، ورسمها واقفة على عتبات النهار المضيئة بالألوان، وحرائقها وهي حارسة الليل والسند العائلي ورمز الحب والاطمئنان.
تكعيب وتجريد

من التكعيبية إلى التجريد ومن مناظر البحر والجبل إلى مناظر الداخل، وعين الفنان تسجل وتختزن وتنسى لتستعيد وتتذكر وتتحرر، هذه الحرية التي تجعل كل شيء ممكنًا، بنظر فنان يستطيع أن يتلاعب بالكتلة والفضاء الخلفي وما قبله وما دونه. ولوحات صبان بانوراما تفتح أبواب المخيلة على خصائص عمارة الأمكنة التي تخرج من حالتها الوصفية إلى مفردات تشكيلية تتخطى عتبة التشييد الهندسي.
ذاكرة المكان
ولا تغيب عن شمس ذاكرته أطياف المدن التراثية القديمة بزخارفها وعقودها وألوانها، وشرفاتها المطلة على الحارات الضيقة التي تضج ببهجة قاطنيها، وتكشف أعماله صور ومتخيلات وطقوس استلهمها من مكة المكرمة مسقط رأسه والمدينة التاريخية جدة، التي جسد الصبان موروثاتها البصرية، المستمدة من الحياة العامة والفلكلور الشعبي وتضاريس البحر والمراكب المتلاصقة كما في موانئ المدن القديمة، ويستثمر الصبان كل الطقوس التي من شأنها إحياء الذاكرة الزمانية والمكانية في المدن التاريخية، كما في فيلم تسجيلي يستعيد فيه ذاكرة المكان والحياة بكل القيم التي احتضنتها أروقتها الحية، والتي لا ينفك الصبان من إعادة تصوير تفاصيلها البسيطة، والتي تتصل بإحياء الموروث وتعزيز بنية الهوية المحلية٬ فهو لم يتخل يومًا عن التشخيص، وإن كانت محاكاته للواقع شبيهة بحلم تجريدي لفرط التأويلات مع النغمية اللونية التي تشغل اللوحة، التي تحفظ ذاكرة الألعاب وألوان ملابس النساء وبهجة الشواطئ وحركة السوق.
ويعشق الصبان العمارة العربية القديمة التي تتزين جدرانها بالرواشين، التي طالما تغنى بها البيت الحجازي، كما يعشق البحر والصيادين والمراكب، التي تثير بلاغتها الجمالية المرهفة هدفًا ساميًا باعتبارها مصدرًا للرزق وللغذاء، كما هو حال كل المدن التاريخية العتيقة التي تسكننا كيفما كانت.