مجلة اقرا

“محمد علي سندي” دانة مكة وصهبتها

بقلم– آمال رتيب:
قبل ذلك الزمن الذي تسجل فيه شهادات الميلاد٬ ويعرف كل إنسان بيوم مولده٬ كان العطاء والبصمة المميزة هي التي تسجل شهادة الميلاد٬ هذه المقولة تنطبق على “محمد على سندي”٬ الذي لم تكن الأفراح في مكة تتم إلا بحضوره٬ فأهل مكة والحجاز عامة يعرفون تلك الأصابع الذهبية التي تطيعها أوتار العود فتنساب ألحانا شجية٬ فكل من يعرف «على العقيق اجتمعنا» و«بات ساجي الطرف» و«ماس ورد الخد» و«يا عروس الروض» بالتأكيد فهو يعرف ” محمد على سندي”…
بداياته
اشتهر محمد علي سندي بفن الدانة المكية وكان غناؤه عبارة عن مجسات ومواويل من بعض الموشحات من القصائد العربية.
عشق المقامات صغيرا عندما كان يصغي بانتباه إلى نداء المؤذنين وتراتيل أئمة الحرم المكي في الصلوات الجهرية. وفي صباه كان حريصا على مجالسة المؤذنين ليأخذ عنهم أصول فن المقام. كما كان يسمع لكبار المطربين العرب٬ وتعلق بخاصة في أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، ونغمات موسيقى محمد عبد الوهاب وغيرهم. كما كان يجتمع مع أقرانه العازفين ليلا على الآلات الموسيقية مرديين لمقطوعات تراثية بفن المجرور. وظل محمد علي سندي وفيا للتراث الحجازي حتى بات أحد علاماته المميزة٬ ولكنه كان من المجددين في طرق تقديمه.
حتى أن الموسيقار الكبير سراج عمر قال عنه: «كان للمناسبات الاجتماعية ومجالس الطرب والأنس التي كان يقيمها أهالي مكة في منازلهم لإحياء أفراحهم ومناسباتهم الخاصة شكلت نقطة الانطلاق للسندي».
كما كان لمعرفته العميقة بالفنان محمود حلواني عازف الكمان كان لها أكبر الأثر في تشربه للون التراثي٬ بحسب رأي الناقد الفني محمد رجب.
بدأ محمد علي السندي بالغناء مع الفنانين المكيين في ذلك الوقت من أمثال حسن جاوة وسعيد باخشبة وحسن لبني. لكنه تميز في محاولته التجديد من خلال تغيير طريقة الأسلوب التي تميز بها في الغناء محتضنا العود الذي أجاد العزف عليه٬ فكان السندي من أفضل عازفي العود وتعلم منه كثيرا من الفنانين من أمثال الراحل فوزي محسون.
إلا أن إجادة العزف على العود لم تكن النغمة التي أطلقت الدانة السندية لجمهور الطرب الأصيل في الحجاز فحسب، بل كان لحرص السندي على تعلم الألوان الشعبية والفلكلور القديم دور كبير في انتشاره من خلال صوته المميز.
الشوق لمكة
«انطلاقته الحقيقية بدأت من جدة والإذاعة سجلت مولده»
وفي شهادة سراج عمر عنه: «أجاد السندي غناء الفن الحجازي وكان ممن توغل في الدانات المكية القديمة ومجال الغناء الشعبي وتعلمه من رفاقه أمثال عبد المحسن شلبي وضابط الإيقاع محمد باموسى والشيخ صالح باعرب».
وعند مفارقته مكة ونزوحه إلى مدينة جدة للالتحاق بمكتب المحروقات في مصلحة الطيران المدني، بعد أن تأكد له أن الفن لا يطعم خبزا، هاج حنينه إلى بيته الأول وهو يرمق نوارس البحر الأحمر من على شاطئ العروس، متذكرا حمام البيت طائفا حول الكعبة وأروقة بيت الله. فحمل النوارس البيضاء رسالته لحمام مكة وما جاورها وراح يغني «يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة..
سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامة.. واحملي شوق محب ذي جراح وهيامه». وأستودع النوارس سره الدفين الموجع لروحه الشفافة، وهو دامع العينين «خبريها أن قلب المستهام ذاب وجدا.. واسأليها كيف ذياك الغرام صار صدا.. فهيامي لم يعد بعد هيام بل تعدى».
يقول الناقد الفني محمد رجب إن هذه الأغنية تعد من أقدم الدانات المكية قام السندي بتركيبها على لحن تراثي في الستينات الهجرية، وساهمت في شهرة محمد علي سندي بشكل كبير في ذلك الوقت. مشيرا الى أن كلمات هذه الأغنية «عروس الروض» هي للشاعر الياس حبيب فرحان.
ومع شوقه لمكة، ورغبته في العودة إليها، إلا ان حب الفن والموسيقى كان طاغيا٬ فزاد اختلاطه بالفن وأهله٬ وكان انتقال سندي إلى جدة بداية الانطلاق الحقيقية والتي عمدته كمطرب يشار إليه بتميزه في اللون الشعبي. وكانت الإذاعة السعودية القناة التي عبر من خلالها الى عالم الشهرة. مستفيدا من ملازمته لفنانين أخذ منهم وأخذوا عنه لكنهم سبقوه الى ميكرفون الإذاعة.
ولم يكتف سندي بالإذاعة، بل قام بتسجيل بعض أغنياته للتلفزيون الأوسع انتشارا من خلال مسرح التلفزيون. كان يحدوه أمل قديم وحرص على نقل التراث وحفظه للأجيال القادمة. في حفل جمعه مع فناني العروس رددوا سويا «على العقيق اجتمعنا.. إحنا وسود العيون.. ما بال مجنون ليلى.. قد جن بعد جنوني..».
تجدد التراث
انتشار سندي كمجدد للتراث وتفرد الأداء الذي تميز به دعاه لتأسيس فرقة موسيقية خاصة به مساهمة منه في دعم ظهور التراث الغنائي الحجازي الى كل أذن عربية. فأسس فرقة خاصة به مكونة من عازفي الكمان جميل مبارك ومهنى ساعاتي ومحسن شلبي وحسين فدعق على القانون.
وعلى الرغم من تفرده في الدانة المكية وتميزه باللون التراثي في أوائل الثمانينات الميلادية، إلا أن النقاد صنفوه ضمن الحافظين للفن الحجازي الذي تمثله الدانات القديمة والمجارير في حين لم يتم تسجيل أي أسطوانات خاصة به.
ومن أسباب ذلك أنه عمل على أداء الفلكلور والتراث الحجازي وليست له أغان خاصة به إلى جانب أنه لم يقم بتسجيل اسطوانات تحفظ ما قدمه السندي».
وفي مجال التلحين، تمكن السندي من ترك بصمة لحنية يتيمة كتب كلماتها الشاعر أحمد باعطب كانت من أشهر ما غنى السندي يقول مطلعها «سلاما مهبط الوحي.. سلاماً مهبط الإيمان».
ولم يعرف النقاد ومؤرخي الثقافة الموسيقية أسباب عزوفه عن التلحين والمضي في هذا المجال. والحق أن الفنان محمد علي سندي واحد من بين أكثر الفنانين الذين تعرضوا للإهمال والجفاء لتاريخه الفني كتابة وحفظا. فما يعرف عنه قليل الى درجة الندرة. وما تبقى من تاريخه محفوظ في صدور من بقي من أصحابه الأحياء.
عودة الهوية
وبغياب محمد علي سندي في العام 1406 هـ – 1986 م عن المشهد الغنائي، أسدل الستار على فصل من فصول التراث الغنائي الحجازي. وكان أقسى ما شهده تاريخه، الى جانب نسيان مكتبة التلفزيون لأعماله، هو موقف ورثته من تاريخه الموسيقي، وسعيهم الى ردم كل ذكر له٬ من خلال سعيهم في أكثر من اتجاه للحصول على أمر بمنع أعماله من العرض، ليموت مع صاحبه، ويطويه النسيان.
لكن ما يثير بصيص من النور ان التوجه الجديد لوزارة الإعلام وحرصها على إبراز الهوية الثقافية والفنية عزز إمكانية إعادة أعمال محمد علي السندي بصوته وعرضها على المشاهد.