مجلة اقرا

التشكيلية صفية بن زقر.. تعدت حدود الفن إلى بصمة الذاكرة

كتبت ـ آمال رتيب
لم يكن الحس الفني فقط هو المحرك الرئيس لفنانة الجيل ورائدة الفن التشكيلي بالسعودية الفنانة صفية بن زقر، فالمشاهد للوحاتها والمتفرس في ثنايا دارتها لا تساوره لحظة شك واحدة في أن هذه الفنانة استطاعت بمهارة أن تنقل الاستمتاع بكل اللحظات التي سجلتها لوحاتها من حديث “الصبحية” إلى زفة الحلاقة، ومن أهازيج الصيد إلى لوحات الحروب، كلها لوحات تخطفك لتعيش داخلها ..
الريشة وسيلتها لاسترجاع الماضي
في العام 1963عادت صفية بن زقر من القاهرة إلى مدينة جدة، بعد أن أصبحت شابة٬ غادرتها صبية في السابعة من عمرها العام 1947 ٬ ولكن هذه السنوات السبع كأنما حفرت بصماتها في ذاكرتها وتفاصيل يومها٬ عادت بحنين إلي تلك الحارات والرواشين التي تزين جدة٬ لكنها أدركت أن رياح التغيير قد بدأت تعصف بالمدينة التي عرفتها وقد طالت يد التطور السريع كل شيء، فجدة قد بدأت تخرج من حدود سورها المنيع وتمتد في كل اتجاه تاركة خلفها الحارات الضيقة التي تقارب بين البيوت الحجرية الجميلة ذات الرواشين الخشبية المزخرفة، وأهل جدة قد بدأوا في النزوح إلى المنازل الأسمنتية،
والإقلاع عن عاداتهم المتوارثة، واستبدال أزياءهم المميزة بما يساير الموضة الحديثة، لم تجد صفية حين عادت إلى جدة ما يشبع حنينها إلى المكان الذي رحلت عنه، وكلما ازداد شوقها إلى الماضي، كلما استيقظت داخلها رغبة في استرجاع الوقت الجميل والقصير الذي عاشته في أرجاء ذلك المكان، ولم يكن في يد صفية سوى ريشتها، ولكن عزيمتها القوية كانت دافعاً وحافزاً لها في مهمة شاقة وطويلة تهدف إلى استرجاع الماضي والاحتفاء به، أمسكت الفنانة بريشتها وبدأت بجدية تامة في إعادة تكوين مدينة متكاملة بأبنيتها وسكانها ، بأنشطتها وأحداثها، بعاداتها وتقاليدها، بأفراحها وحيويتها٬ ولتسطر تاريخا وريادة في عالم الفنون الجميلة.
توثيق التراث
ومنذ المراحل الأولى لعلاقتها بالفن تنبهت صفية إلى التغير الكبير في صور الحياة اليومية التقليدية ؛ مما حفزها على الاهتمام بتوثيق التراث عبر لوحاتها الفنية التي كرستها لهذا الهدف، كانت صفية تدرك بحس الفنان أنها في صراع مع الزمن، واعتمدت على التصوير الفوتوغرافي لإنقاذ ما يمكن من الصور التي أخذت تزول من حولها تدريجياً لتعيد إنتاجها مع ما تستحضره الذاكرة من أيام الزمن الجميل، وأخذت الفنانة على عاتقها مهمة توثيق التراث من مصادره الأساسية ،
لتصبح أعمالها الفنية سجلاً مرئياً حافلاً بتاريخ الماضي ، وبما اندثر منه مع موجات الحياة العصرية وما أحدثته من تطور في أنماط الحياة التقليدية، وعلى الرغم من إحساس صفية بأهمية توخي الصدق والأمانة في نقل التراث المندثر إلى الأجيال القادمة بدقة متناهية، إلا أن لوحاتها تعكس أيضاً مشاعر الفنانة وأحاسيسها، فالحب يشع من كل لوحة، والحنين إلى الماضي ينطق في من بين زواياها، والاعتزاز والتقدير لكل الطقوس الاجتماعية واضح في طريقة عرضها وفي مساحاتها وألوانها الزاهية.
24 معرضاً فنياً
أقيم أول معرض رسمي للفنانة صفية بن زقر في مدينة جدة ، كانت منطلقاتها التراثية منذ ذلك التاريخ حافزاً لتواصلها معه بتسجيل وتوثيق مظاهرة خاصة في المنطقة الحجازية التي تعيش فيها الفنانة، سجلت للأسواق والحارات وللأبنية وللعادات والتقاليد الاجتماعية، بعد أن صقلت موهبتها الفنية بالدراسة الخاصة في القاهرة ، ثم التحقت بمعهد سان مارتن للفنون بلندن ودرست فيه عامين وحصلت على شهادة في الرسم والجرافيك،
وأقامت معارضها بشكل شخصي منذ 1968 في جدة والمدينة المنورة وينبع، وأبها ولندن والظهران وباريس وجنيف، وكانت تحمل ذات الاتجاه في التسجيل والتوثيق للمظاهر المحلية في السعودية، حتى أصبح لها حصيلة 18 معرضاً شخصياً، و6 معارض جماعية، عرفت من خلالها صفية بن زقر كـ”فنانة التراث السعودي” محلياً ودولياً٬ وكتابها (المملكة العربية السعودية من خلال نظرة فنانة) بالفرنسية والانجليزية٬ يتضمن عدداً كبيراً من أعمالها الفنية، بينما كتابها الثاني عن مشوارها الفني، وهي عضوة في عدد من المؤسسات الفنية.
التأثيرية الصادقة
حددت صفية بن زقر مسارها الفني الذي تمضيه في الاغتراف من الماضي لتغذي به الحاضر والمستقبل، وكما اختارت لنفسها مساراً، فقد اختارت أيضاً لنفسها أسلوباً يعينها في الوصول إلى مبتغاها وهو التأثيرية الصادقة، وتظهر لوحات الفنانة صفية بتفصيل ودقة فنية الجوانب المتعددة للحياة الاجتماعية في محيطها وبيئتها المحلية، وهذه هي المادة الأساسية لموضوعاتها الفنية بكل صدقها توضحها رقة ألوانها وعذوبتها٬ وتبرزها تكوينات كل لوحة وأبعادها في تناسق جميل وممتع.
والمتأمل للوحات صفية بن زقر يستطيع أن يتلمس كيف تطور اسلوبها من مراحل تأثره بالاطلاع والبحث والدراسة لأساليب كبار الفنانين ، خاصة أولئك الذين عرفوا بالتأثيرين أو الانطباعيين التشكيليين أمثال جيوتو فرا أنجيليكو وسيزان، أو حتى من آثار فن شرق آسيا في التلوين التي تبدو جلية في لوحتها ( امرأة بدوية ) التي لو أخفيت أجزاء الوجه فيها ، فإن معالجات الفرشاة اليابانية أو الصينية تبدو واضحة ، لكنها نجحت تدريجياً في التخلص من هذا التأثر حتى أصبح لها أسلوبها المستقل الذي نجحت في أقلمته ليتناسب مع مظهرية التراث المستوحى في لوحاتها، وقد تركت تلك الخصوصية بصماتها الواضحة على فن صفية بن زقر بشكل تلقائي ومباشر ، وهو أمر جعل لوحاتها مختلفة عن غيرها من الفنانين التشكيليين، فقد خرجت بخصوصيتها عن المألوف وصاغت اللغة التشكيلية بمفردات مختلفة اعتمدت فيها على ملكة الخيال الذاتية.
الدارة
بعد رحلة 30 عاماً على طريق الفن التشكيلي، تحقق للفنانة حلماً طالما راود خيالها، وذلك بتأسيس ” دارة صفية بن زقر ” التي تضم لوحاتها ومقتنياتها الفنية، كما تحتوي الدارة على مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة، وقد أرادت صفية أن تكون الدارة منبراً ثقافياً شاملاً تستنير به الأجيال، ففتحت أبوابها لاستقبال كل زائر وباحث، كما أقامت ورش عمل فنية للكبار والصغار، وقدمت محاضرات ثقافية فنية لجمهور من المهتمات بالأدب والفنون التشكيلية، وبمناسبة افتتاح الدارة في يناير عام 2000 صدر كتاب الفنانة صفية بن زقر الثاني ” رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي”، وفي هذا الكتاب توضح صفية أهداف ونشاطات الدارة بعد رحلة 30 عاماً من العمل المتواصل والمثابرة من أجل توثيق التراث بشكل جمالي وبنـّـاء.
4أهداف رئيسية
والآن وبعد مضي ما يقارب العقدين من افتتاحها، أصبحت الدارة معلما ثقافيا تشع منه مختلف الفنون، وتنبع أهمية الدارة من 4جوانب ؛ تاريخية وفنية وثقافية وتعليمية ، فالجانب التاريخي يرتكز على أن الدارة هي الأولى من نوعها في المملكة العربية السعودية، لكونها مصممة ومنشأة على أسس معمارية وفنية بهدف أن تكون مقراً (متحفاً) مكتمل التجهيز لجمع وحفظ وعرض أعمال فنانة واحدة، أما أهمية الدارة من الجانب الفني فتكمن في تسليط الضوء على نموذج من الفن السعودي المعاصر وجعله متاحاً للجميع للمشاهدة،
وكما توقعت الفنانة أن تؤدي زيارة الدارة ورؤية ما بها من أعمال فنية إلى فتح الباب لأحاديث أو مناقشات أثناء الزيارة أو بعدها بين الناس، ولكتابات نقدية جادة أو كمجرد آراء ذاتية وانطباعية، مما يسهم في نشر الوعي والتذوق الفني لدى الجمهور السعودي بشكل خاص والزوار بشكل عام، إضافة إلى أن الدارة نفسها تسجل وتوثق لدى عدد كبير من المؤسسات الفنية من مختلف الدول مما يسهم في زيادة التعرف عن الفن السعودي المعاصر ويساعد على انتشاره في الساحة الدولية،
ومن الجانب الثقافي تأتي أهميتها بما تقدمه من خدمات أو نشاطات أو برامج ثقافية إلى جانب المعلومات المعرفية اللازمة عن الأعمال الفنية المعروضة بصفة دائمة أو بصفة دورية مؤقتة، كما تحقق لها الهدف الرابع وهو الدور التعليمي ؛ عن طريق الفعاليات التي تقدم للصغار وشباب الفنانيين ، كما تضم الدارة المكتبة المرئية التي تعد بمثابة مرجعا فنيا للمهتمين والمهتمات والباحثين والباحثات، وتتضمن مجموعة أشرطة لتعليم الفن التشكيلي وتسجل حياة الفنانين العالميين وتستعرض المتاحف العالمية، ويشتمل المجلس التراثي على بعض تراث الماضي، ويرى الزائر فيه الجلسة الحجازية بمفارشها التقليدية والأدوات والقطع القديمة.
وفي ممر القبة تعرض الملابس والحلي التراثية من مختلف مناطق المملكة ، ودعمت الدارة منظمة اليونسكو والجمعيات الخيرية بتنفيذ أعمالها على شكل بطاقات أو غيرها ثم بيعها لصالح الأعمال الخيرية، ومنذ إنشاء الدارة ارتبطت بالمجتمع ، ونظمت عديد من المسابقات المختلفة في موضوعات متنوعة، منها المناظرة الشعرية السنوية لدارة صفية بن زقر ، بهدف الحفاظ على التراث الأدبي بمشاركة المهتمات بالأدب العربي الأصيل من مثقفات وأكاديميات.
احتفاء وتكريمات
كل هذه الجهود التي بذلتها الفنانة صفية بن زقر كانت محط اعجاب متوارث وتقدير تتناقله الأجيال٬ ففازت بأرفع الجوائز والأوسمة٬ ونالت وسام الملك عبد العزيز خلال مهرجان الجنادرية 2016. كما حازت على الكثير من الجوائز كجائزة كأس ودبلوم دي إكسيلانس من جرولادورا عام 1982 في إيطاليا، كذلك شهادات تقدير عديدة ودروع تكريم لإنجازاتها الفنية الثرية.
والسؤال الذي ظل يراودنا عن تخيلها (الفنانة صفية بن زقر) لمدينة جدة التي غيرت من نفسها عشرات المرات٬ وهي التي فزعت من التغيير الذي شاهدته بعد عودتها للبلاد في ستينات القرن الميلادي الماضي، ولكن يمكن القول أن لكل عصر أبنيته وفنونه٬ وأن جهود ” بن زقر” التي حفظت تراثا وإرثا للأجيال، ستظل مقدرة ومشكورة على مر الزمن.